هل وصف الشيخ أحمد بن تيمية الأشاعرة بأنهم أنصار أصول الدين؟

يشاع في المنتديات ووسائل التواصل الإجتماعي أن الشيخ أحمد بن تيمية قال عن الأشاعرة: "قَالَ : وَأَمَّا لَعْنُ الْعُلَمَاءِ لِأَئِمَّةِ الْأَشْعَرِيَّةِ فَمَنْ لَعَنَهُمْ عُزِّرَ . وَعَادَتْ اللَّعْنَةُ عَلَيْهِ فَمَنْ لَعَنَ مَنْ لَيْسَ أَهْلًا لِلَّعْنَةِ وَقَعَتْ اللَّعْنَةُ عَلَيْهِ . وَالْعُلَمَاءُ أَنْصَارُ فُرُوعِ الدِّينِ وَالْأَشْعَرِيَّةُ أَنْصَارُ أُصُولِ الدِّينِ" انتهى ما زعموا أنه قول الشيخ ابن تيمية!

وهذا ليس قول الشيخ ابن تيمية، بل ابن تيمية ناقل فقط، بدليل أنه صدر مقاله هذا بقوله: "قال" فالكلام محكي منقول وقائله هو المذكور في أول الكلام حيث يقول ابن تيمية: ''وكذلك رأيت في فتاوى الفقيه أبي محمد فتوى طويلة.. قال فيها: .." إلى أن يقول: "قال: وأما لعن العلماء الأئمة الأشعرية فمن لعنهم عزر وعادت اللعنة عليه... والعلماء أنصار فروع الدين والأشعرية أنصار أصول الدين، قال: وأما دخولهم النار.." الخ.

وفي آخر هذه الفتوى نفسها يقول ابن تيمية ''وأيضاً فيقال لهؤلاء الجهمية الكلابية كصاحب هذا الكلام أبي محمد وأمثاله كيف تدعون طريقة السلف وغاية ما عند السلف أن يكونوا متابعين لرسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؟!'' إلى أن يقول: ''وأبو محمد وأمثاله قد سلكوا مسلك الملاحدة الذين يقولون إن الرسول صلى الله عليه وسلم لم يبين الحق في باب التوحيد''.

وبهذا يتضح قطعاً:

أ- أن العبارة المذكورة ليست من قول ابن تيمية بل قائلها أشعري يمدح مذهبه.

ب- أن ابن تيمية نسب هذا القائل ومذهبه إلى الجهمية الكلابية واتِّباع طريقة الملاحدة، وأنكر عليهم ادعاء طريقة السلف، وهذا ينفي ما حاول المدلسون نسبته إلى الشيخ ابن تيمية من الثناء على الاشاعرة ومذهبهم

هذا ولم يصدر من ابن تيمية مدح مطلق للأشاعرة أبداً، وإنما غاية مدحه لهم كما في [ج 12] من الفتاوى أن يصفهم بأنهم أقرب من غيرهم، وأن مذهبهم مركب من الوحي والفلسفة، أو يمدح المشتغلين منهم بالحديث، لا لكونهم أشاعرة ولكن لاشتغالهم بالسنة مع سؤال المغفرة لهم فيما وافقوا فيه متكلمي مذهبهم.

لكن هذا أقل بكثير من المواضع التي صرح فيها بتبديعهم وتضليلهم وفساد منهجهم فهي أكثر من أن تحصر.

كما أنه حدد متى يعد المنتسب إلى الأشعري من أهل السنة فقال:

''أما من قال منهم بكتاب الإبانة الذي صنفه الأشعري في آخر عمره ولم يظهر مقالة تناقض ذلك؛ فهذا يعَدُّ من أهل السنة، لكن مجرد الانتساب إلى الأشعري ؛ لا سيما وأنه بذلك يوهم حسناً لكل من انتسب هذه النسبة، وينفتح بذلك أبواب شر''؟

أي أن من كان على عقيدة السلف منهم لا ينبغي له الانتساب للأشعري لأنه بدعة ومذمة.


فتن أهل الكلام

لقد أوقع الجهمية بشقيها المعتزلي والأشعري الكثير من الفتن على مرّ التاريخ، بهدف الدعوة لدينهم المستورد من فلاسفة الإغريق، وأيضاً للقضاء على أي دعوة تحاول إعادة الناس إلى الطريق المستقيم، وإلى هدي الكتاب والسنّة، وقد جمعت ما تيسّر لي منها في هذا البحث.

فتنة القول بخلق القرآن

وهي أول فتنة أوقعها المتكلمون

كان أهل الحديث، والذين عرفوا فيما بعد بأهل السنة والجماعة، هم المسيطرون على المشهد الديني، عند العامة والخاص، وكان كل من يخالفهم يعد مبتدعا ضالا، مقموعا مقبوحا، لذلك لم يكن لدعوة المعتزلة أثر يرجى بين العامة أو الخاصة.

لذلك سعى المعتزلة لفرض دينهم بالقوة، وقد علموا أنه لا يمكنهم من ذلك إلا بقوة السلطان، فاتصل أحدهم، وهو الشقي أحمد بن أبي دؤاد بالمأمون فقربه منه، وأعجب به، فإنه كان صاحب منطق حسن، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم في ما روي عنه من الحديث: "أخوف ما أخاف على أمتي كل منافق عليم اللسان" انتهى

فكان أحمد بن دؤاد هذا مستشار المأمون، فحسن للمأمون الاعتزال، وقرب المعتزلة، ومنهم: بشر بن غياث المريسي (ت 218هـ) ومحمد بن الجهم الناجي (عاش في النصف الأول من القرن الثالث الهجري)  ومحمد بن عيسى الشهير ببرغوث (ت 240هـ وقيل: 241هـ) فصاروا بطانة المأمون وخاصته، وأقنعوه بفرض الاعتزال على العامة والخاصة، وأن يمتحن الناس على ذلك، فامتحنوا الناس على القول بخلق القرآن، كوسيلة لنفي باقي صفات الله تعالى، ومنها العلم والكلام، فجرى بسببهم فتنة عظيمة، وهي أول فتن المتكلمين في الإسلام.

قال الشيخ عبدالعزيز الكناني في كتابه الحيدة: "وكان الناس في ذلك الزمان وذلك الوقت في أمر عظيم، قد منع الفقهاء والمحدثون والمذكرون والداعون من القعود في الجامعين ببغداد وفي غير هما من سائر المواضع، إلا بشر المريسي وابن الجهم، ومن كان موافقا لهما على مذهبهما، فإنهم كانوا يقعدون يجتمع الناس إليهم، فيعلمونهم الكفر والضلال، وكل منأظهر مخالفتهم، وذم مذهبهم، أو اتهم بذلك أحضر، فإن وافقهم ودخل في كفرهم، وأجابهم إلى ما يدعونه إليه وإلا قتلوه سرا، وحملوه من بلد إلى بلد، فكم من قتيل لم تعلم به، وكم فين مضروب قد ظهر أمره وكم ممن قد أجابهم واتبعهم على قولهم من العلماء خوفا على أنفسهم لما عرضوا على السيف والقتل أجابوا كرها، وفارقوا الحق عيانا، وهم يعلمون لما حذروا، من بأسهم والوقوع بهم." اهـ

وقد وافقهم المأمون على ما أرادوا، لما سبق في علم الله تعالى أنه لا يفلح، فطلب أئمة أهل الحديث، وأمر بالقبض عليهم، وإجبارهم على القول بخلق القرآن، فمنهم من أجاب مكرها، ومنهم من أبى، فكان ممن أبى الإمام أحمد بن حنبل (ت سنة 241هـ) فكاد أن يستبيح الخائن دمه، فهلك قبل أن ينال مراده.

فلما هلك المأمون، وتقلد أخوه المعتصم مقاليد الخلافة، حرضه أولئك الأوباش على الاستمرار في المحنة، وعلى امتحان الإمام أحمد خاصة، فاستخرجه وجرت بين الإمام وبينهم مناظرات، ذكرها ابنه القاضي صالح بن أحمد بن حنبل في كتاب "محنة الإمام أحمد بن حنبل" وابن عمه حنبل بن إسحاق بن حنبل في كتابه "محنة الإمام أحمد بن حنبل" ولم يكن للمعتصم فيها هم إلا أن يقبل الإمام أحمد قولهم، دون النظر في الأدلة، أو حجة من كتاب أو سنة، فلما أصر الإمام أحمد على الثبات، أمر به فجلد حتى كاد أن يهلك، ثم أخرجه وأمره بلزوم داره، وأن لا يدخل عليه أحد ولا يخرج إلى أحد، فمكث على هذا الحال حتى هلك المعتصم، وتقلد الخلافة بعد الواثق، فاستمر الإمام أحمد مسجونا في داره، واستمر الواثق في امتحان الناس، فضاق أئمة أهل الحديث بهذه المحنة ذرعا، ورأوا أنه لا خلاص لهم إلا بالخروج على الواثق، لعل الله أن يمكنهم منه، فيخلعونه ويستبدلونه بمن هو خير للمسلمين، وكان الداعي إلى ذلك هو الإمام أحمد بن نصر الخزاعي، لكن الله لم يشأ ذلك، فتم القبض على الإمام أحمد بن نصر، وقتله الواثق بيده، سنة 231 للهجرة، رحمه الله رحمة واسعة، ولعن الله قاتله لعنة تدخله قعر جهنم، هو ومن لقنه الكفر والإلحاد، ومن سار على نهجه ونهج أصحابه إلى يوم الدين، إنه ولي ذلك والقادر عليه.

ثم رفع الواثق المحنة، وكان سبب رفع المحنة، فيما روي مختصرا، أنه استقدم رجل من أهل الحديث مخضوب اللحية، فأمر الواثق أحمد بن أبي دؤاد أن يكلمه، فقال له أحمد بن أبي دؤاد: يا شيخ ما تقول في القرآن؟ فقال الشيخ للواثق: لم ينصفني ولي السؤال. قال: سل. قال الشيخ: ما تقول في القرآن؟ قال: مخلوق. قال الشيخ: هذا شيء علمه النبي صلى الله عليه وسلم وأبو بكر وعمر والخلفاء الراشدون أم شيء لم يعلموه؟ قال: شيء لم يعلموه. فقال الشيخ: سبحان الله شيء لم يعلمه النبي صلى الله عليه وسلم علمته أنت! فخجل أحمد بن أبي دؤاد، وقال: أقلني. قال الشيخ: المسألة بحالها. فقال أحمد: نعم علموه. فقال الشيخ: علموه ولم يدعوا الناس إليه؟ قال: نعم. قال الشيخ: أفلا وسعك ما وسعهم! فقام الواثق فدخل مجلسا واستلقى وهو يقول: شيء لم يعلمه النبي صلى الله عليه وسلم ولا أبو بكر وعمر وعثمان وعلي ولا الخلفاء الراشدون علمته أنت سبحان الله! شيء علموه ولم يدعوا الناس إليه أفلا وسعك ما وسعهم! ثم أمر برفع قيوده، وأن يعطى أربع مئة دينار، ويؤذن له في الرجوع، وسقط من عينه ابن أبي دؤاد ولم يمتحن بعدها أحدا.

فلما هلك الواثق، وتولى المتوكل على الله مقاليد الحكم، نصر الله به السنة، وقمع الله به المعتزلة، وطفئت به نار الإلحاد والكفر والعناد، واستنارت البلاد والعباد، فرجع المعتزلة إلى جحورهم، مقموعين مقبوحين مخذولين، والحمد لله رب العالمين.

محنة الإمام أبي يعلى الفراء

وهي ثاني فتنة أوقعها المتكلمون

قال أبو الحسين بن أبي يعلى الحنبلي: "وقد كان حضر الوالد السعيد قدس الله روحه في سنة اثنتين وثلاثين وأربعمائة في دار الخلافة في أيام القائم بأمر الله رضوان الله عليه مع الجم الغفير والعدد الكثير من أهل العلم وكان صحبته الشيخ الزاهد أبو الحسن القزويني لفساد قول جرى من المخالفين لما شاع قراءة كتاب " إبطال التأويلات " فخرج إلى الوالد السعيد من الإمام القائم بأمر الله رضوان الله عليهم: الاعتقاد القادري في ذلك بما يعتقد الوالد السعيد، وكان قبل ذلك قد التمس منه حمل كتاب " إبطال التأويلات " ليتأمل فأعيد إلى الوالد وشكر له تصانيفه، وذكر بعض أصحاب الوالد السعيد: أنه كان حاضرا في ذلك اليوم قال: رأيت قارىء التوقيع الخارج من القائم بأمر الله رضوان الله عليه قائما على قدميه والموافق والمخالف بين يديه ثم أخذت في تلك الصحيفة خطوط الحاضرين من أهل العلم والفقهاء على اختلاف مذاهبهم وجعلت كالشرط المشروط، فأول من كتب: الشيخ الزاهد القزويني: هذا قول أهل السنة وهو اعتقادي وعليه اعتمادي ثم كتب الوالد السعيد بعده وكتب القاضي أبو الطيب الطبري وأعيان الفقهاء من بين موافق ومخالف، فبلغني: أن أبا القاسم عبد القادر بن يوسف قال بعد خروجه عن ذلك المجلس روى عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: "لا تزال طائفة من أمتي على الحق ظاهرين إلى يوم القيامة" فلما أرادوا النهوض من ذلك المجلس: التفت ابن القزويني الزاهد إلى الوالد السعيد فقال له: كما في نفسك؟ فقال له الوالد السعيد: الحمد لله على ما تفضل به من إظهار الحق، فقال له ابن القزويني الزاهد: لا أقنع بهذا وأنا أحضر بجامع المنصور وأملي أحاديث الصفات فحضر القزويني الزاهد جمعا مترادفات بجامع المنصور وأملى أخبار الصفات ناصرا لما سطره الوالد السعيد، ثم توفي ابن القزويني ليلة الأحد الخامس من شعبان سنة اثنتين وأربعين وأربعمائة وصلى عليه بين الحربية والعتابيين مما يلي الخندق وحضره عالم كثير وجرى تشغيب بين أصحابنا وبين المخالفين لنا في الفروع، فحضر الوالد السعيد سنة خسس وأربعين في دار الخلافة مجلس أبي القاسم علي بن الحسن رئيس الرؤساء ومعه جم غفير وعدد كثير من شيوخ الفقهاء وأماثل أهل الدين والدنيا، فقال رئيس الرؤساء في ذلك اليوم على رؤوس الأشهاد: القرآن كلام الله وأخبار الصفات تمر كما جاءت وأصلح بين الفريقين ففاز الوالد السعيد بخير الدارين إن شاء الله، ولو تتبعنا هذه المقامات لطالت الحكايات" اهـ

قلت: و إعلانهم هذا، هو رد على الأشعرية، و إن لم يسمها، فقولهم إن القرآن الكريم كلام الله، يعني إنه ليس هو حكاية و لا عبارة عنه، على حد قول الأشعرية، و قولهم: "إن أخبار الصفات تمر كما جاءت" يعني إنها لا تؤول على طريقة الأشاعرة، و إنما تثبت على ظاهرها بلا تشبيه. ويتضح أيضا أن الأشاعرة لم يرضوا بهذا الصلح، لكنهم أجبروا على قبوله و التظاهر به، لأن الاجتماع لم يكن في صالحهم و ردٌّ عليهم، فإن الحكام كانوا يطالبونهم بالرد إلى الكتاب والسنة، وهم لا يملكون دليلاً من الكتاب والسنة، بل الكتاب والسنة مليئة بالآيات والأحاديث التي جاء فيها إثبات الصفات، وكل ما لديهم هي حجج لا عقلية وأدلة فلسفية وظنون فكرية، والدين لا يؤخذ بالفلسفة والكلام والظنون الفكرية، وإنما هو كتاب وسنة، فمن خالفها فقد ضل السبيل وفارق السنة والجماعة.

فتنة ابن القشيري

وهي ثالث فتنة أوقعها المتكلمون

قال ابن الجوزي في المنتظم في حوادث سنة 469هـ: "وفي شوال وقعت الفتنة بين الحنابلة والأشعرية، وكان السبب أنه ورد إلى بغداد أبو نصر ابن القشيري، وجلس في النظامية، وأخذ يذم الحنابلة وينسبهم إلى التجسيم، وكان المتعصب له أبو سعد الصوفي، ومال الشيخ أبو إسحاق الشيرازي إلى نصرة القشيري، وكتب إلى النظام يشكو الحنابلة ويسأله المعونة، ويسأل الشريف أبا جعفر، وكان مقيما بالرصافة، فبلغه أن القشيري على نية الصلاة في جامع الرصافة يوم الجمعة، فمضى إلى باب المراتب فأقام أياما، ثم مضى إلى المسجد المعروف اليوم بابن شافع وهو المقابل لباب النوبي، فأقام فيه وكان يبذل لليهود مالا ليسلموا على يد ابن القشيري ليقوي الغوغاء، فكان العوام يقولون: هذا إسلام الرشى، لا إسلام التقى. فأسلم يوما يهودي، وحمل على دابة، واتفقوا على الهجوم على الشريف أبي جعفر في مسجده والإيقاع به، فرتب الشريف جماعة أعدهم لرد خصومة إن وقعت فلما وصل أولئك إلى باب المسجد رماهم هؤلاء بالآجر، فوقعت الفتنة ووصل الآجر إلى حاجب الباب، وقتل من أولئك خياط من سوق الثلاثاء، وصاح أصحابها على باب النوبي المستنصر بالله: يا منصور، تهمة للديوان بمعرفة الحنابلة، وتشنيعا عليه، وغضب أبو إسحاق الشيرازي، ومضى إلى باب الطاق، وأخذ في إعداد أهبة السفر، فأنفذ إليه الخليفة من رده عن رأيه، فبعث الفقهاء أبا بكر الشاشي وغيره إلى النظام يشرح له الحال، فجاء كتاب النظام إلى الوزير فخر الدولة بالامتعاض مما جرى، والغضب لتسلط الحنابلة على الطائفة الأخرى، وإني أرى حسم القول في ما يتعلق بالمدرسة التي بنيتها في أشياء من هذا الجنس. وحكى الشيخ أبو المعالي صالح بن شافع عن شيخه أبي الفتح الحلواني وغيره ممن شاهد الحال، أن الخليفة لما خاف من تشنيع الشافعية عليه عند النظام، أمر الوزير أن يجيل الفكر فيما تنحسم به الفتنة، فاستدعى الشريف أبا جعفر، وكان فيمن نفذه إليه ابن جردة فتلطف به ابن جردة حتى حضر في الليل، وحضر أبو إسحاق، وأبو سعد الصوفي، وأبو نصر ابن القشيري، فلما حضر الشريف عظمه الوزير ورفعه، وقال: إن أمير المؤمنين ساءه ما جرى من اختلاف المسلمين في عقائدهم وهؤلاء يصالحونك على ما تريد. وأمرهم بالدنو من الشريف، فقام إليه أبو إسحاق، وقد كان يتردد في أيام المناظرة إلى مسجده بدرب المطبخ، فقال له: أنا ذاك الذي تعرف، وهذه كتبي في أصول الفقه، أقول فيها خلافا للأشعرية، ثم قبل رأسه فقال الشريف: قد كان ما تقول، إلا أنك لما كنت فقيرا لم يظهر لنا ما في نفسك فلما جاءك الأعوان والسلطان وخواجا بزرك أبديت ما كان مخفيا. ثم قام أبو سعد الصوفي فقبل يد الشريف وتلطف به، فالتفت الشريف مغضبا وقال: أيها الشيخ، أما الفقهاء فإذا تكلموا في مسائل الأصول فلهم فيها مدخل، فأما أنت فصاحب لهو سماع وبغته، فمن زاحمك على ذلك، وعلى ما نلته من قبول عند أمثالك، حتى داخلت المتكلمين والفقهاء، فأقمت سوق التعصب! ثم قام القشيري وكان أقلهم للشريف أبي جعفر لجروانه معه، فقال الشريف: من هذا؟ فقيل: أبو نصر القشيري. فقال: لو جاز أن يشكر أحد على بدعته لكان هذا الشاب، لأنه بادهنا بما في نفسه، ولم ينافقنا كما فعل هذان، ثم التفت إلى الوزير وقال: أي صلح بيننا، إنما يكون الصلح بين مختصمين على ولاية أو دنيا، أو قسمة ميراث، أو تنازع في ملك، فأما هؤلاء القوم فهم يزعمون أننا كفار، ونحن نزعم أن من لا يعتقد ما نعتقده كافر، فأي صلح بيننا وهذا الإمام مفزع المسلمين، وقد كان جده القائم والفادر أخرجا اعتقادهما للناس، وقرئ عليهم في دواوينهم، وحمله عنهما الخرسانيون والحجيج إلى أطراف الأرض، ونحن على اعتقادهما. وأنهى الوزير ما جرى، فخرج في الجواب: عرفنا ما أنهيته في حضور ابن العم، كثر الله في الأولياء مثله، وحضور من حضر من أهل العلم، والحمد لله الذي جمع الكلمة، وضم الألفة، فليؤذن الجماعة في الانصراف، وليقل لابن أبي موسى أنه قد أفرد له موضع قريب من الخدمة ليراجع في كثير من الأمور الدينية، وليتبرك بمكانه. فلما سمع الشريف هذا قال: فعلتموها، فحمل إلى موضع أفرد له وكان الناس يدخلون عليه مديدة ثم قيل له: قد كثر استطراق الناس دار الخلافة فاقتصر على من يعين دخوله. فقال: ما لي غرض في دخول أحد علي. فامتنع الناس، ثم مرض الشريف مرضا أثر في رجليه فانتفختا، فيقال: إن بعض المتفقهة من الأعداء نزل له في مداسه سما، والله أعلم.

وقد نقل هذا الخبر، ابن كثير الدمشقي إلا أنه قال: "ونحن نوجب ما نعتقده وهم يحرمون".

قلت: وهذا تلبيس منه، وكان الأصل أن ينقل الخبر على وجهه الصحيح، كيف يعرفوا حقيقة موقف المذاهب بعضها من بعض، ولا يغر الناس، ويجعلهم يعتقدون أن المسائل التي اختلف فيها أئمة أهل السنة مع المتكلمين، هي مجرد مسائل يسيرة، كغيرها من المسائل الخلافية الفرعية.

جواب النظام لرسالة الشيرازي سنة 470هـ

قال ابن الجوزي: "وورد كتاب من النظام إلى أبي إسحاق الشيرازي في جواب بعض كتبه الصادرة إليه في معنى الحنابلة، وفيه: ورد كتابك بشرح أطلت فيه الخطاب، وليس توجب سياسة السلطان وقضية المعدلة إلى أن نميل في المذاهب إلى جهة دون جهة، ونحن بتأييد السنن أولى من تشييد الفتن، ولم نتقدم ببناء هذه المدرسة إلا لصيانة أهل العلم أو المصلحة، لا للاختلاف وتفريق الكلمة، ومتى جرت الأمور على خلاف ما أردناه من هذه الأسباب فليس إلا التقدم بسد الباب، وليس في المكنة إلا بيان على بغداد ونواحيها، ونقلهم عن ما جرت عليه عاداتهم فيها، فإن الغالب هناك وهو مذهب الإمام أبي عبد الله أحمد بن حنبل رحمة الله عليه، ومحله معروف بين الأئمة، وقدره معلوم في السنة، وكان ما انتهى إلينا أن السبب في تجديد ما تجدد مسألة سئل عنها أبو نصر القشيري عن الأصول، فأجاب عنها بخلاف ما عرفوه في معتقداتهم، والشيخ الإمام أبو إسحاق وفقه الله رجل سليم الصدر، سلس الانقياد، ويصغي إلى كل من ينقل إليه، وعندنا من تصادر كتبه ما يدل على ما وصفناه من سهوله يجتذبه والسلام. فتداول هذا الكلام بين الحنابلة وسروا به، وقووا معه" اهـ

فتنة الاسكندراني

وهي رابع فتنة أوقعها المتكلمون

قال ابن الجوزي في حوادث سنة 470هـ: فلما كان يوم الثلاثاء ثاني شوال وهو يوم يسمى بفرح ساعة خرج من المدرسة متفقه يعرف بالإسكندراني، ومعه بعض من يؤثر الفتنة إلى سوق الثلاثاء، فتكلم بتكفير الحنابلة، فرمى بآجرة، فدخل إلى سوق المدرسة واستغاث بأهلها، فخرجوا معه إلى سوق الثلاثاء، ونهبوا بعض ما كان فيه، ووقع الشر، وغلب أهل سوق الثلاثاء بالعوام، ودخلوا سوق المدرسة فنهبوا القطعة التي تليهم منه، وقتلوا مريضا وجدوه في غرفة، وخاف مؤيد الملك على داره فأرسل إلى العميد أبي نصر يعلمه الحال، فأنفذ إليه الديلم والخراسانية فدفعوا العوام، وقتلوا بالنشاب بضعة عشر، وأنفذ من الديوان خدم لإطفاء الثائرة، ولحمل المقتولين إلى الديوان حتى شهدهم القضاة والشهود، وكتبوا خطوطهم بذلك، وكان نساؤهم على باب النوبي يلطمن، وكتب بذلك إلى النظام فجاءت مكاتبات منه بالجميل، ثم ثناها بضد ذلك.

تدليس ابن الأثير في نقل فتنة ابن القشيري والاسكندراني

قام ابن الأثير، بنقل خبر فتنة ابن القشيري، ولكونه أشعريا متكلما، صاغ الخبر بأسلوب فيه نوع من التزوير والكذب، كما هي عادته في ذلك، كما سوف يمر معنا، فجمع بين فتنة ابن القشيري وفتنة الاسكندراني، وركب الخبر بصيغة ظهر الحنابلة فيها على أنهم هم المعتدون، ومثيري الفتنة، وابن الأثير ليس له مرجع في هذا الخبر سوى كتب ابن الجوزي، مما يدل على أنه تعمد التزوير والكذب في نقل الخبر، فقال: "في هذه السنة ورد بغداذ أبو نصر ابن الأستاذ أبي القاسم القشيري حاجا وجلس في المدرسة النظامية يعظ الناس، وفي رباط شيخ الشيوخ وجرى له مع الحنابلة فتن لأنه تكلم على مذهب الأشعري، ونصره، وكثر أتباعه والمتعصبون له، وقصد خصومه من الحنابلة، ومن تبعهم، سوق المدرسة النظامية وقتلوا جماعة وكان من المتعصبين الشيخ أبو إسحاق، وشيخ الشيوخ، وغيرهما من الأعيان، وجرت بين الطائفتين أمور عظيمة". انتهى

وتصرفه هذه مكر منه لا يحيق إلا به، فالأشاعرة كما في الخبر الذي أورده ابن الجوزي، هم أو لمن اعتدى على الحنابلة، حيث أن ابن القشيري لم يكتف بالدعوة إلى مذهب الأشعري، بل نال من الحنابلة ونسبهم إلأى التجسيم، ثم قام أحد أنصاره، وهو أبو إسحاق الشيرازي، بمحاولة الإيقاع بشيخ الحنابلة، أبي جعفر الهاشمي، فكان ما قام به الحنابلة ردة فعل طبيعية على من أراد أن ينالهم بسوء، ثم لما طفئت الفتنة، خرج رجل من المدرسة النظامية وهو الإسكندراني ودخل إلى سوق الثلاثاء، وهو سوق في محلة الحنابلة، وكان يريد بذلك إثارة الفتنة، وإذكاء الشر، وأخذ بسب لاالحنابلة في سوقهم، فكان رد الحنابلة أيضا ردا طبيعيا على من يريد أن ينالهم بسوء. وسوف يأتي معنا كيف أن الأشاعرة يستقصدون دائما الوقيعة في الحنابلة والنيل منهم والتشنيع عليهم ووصفهم بما هم منه براء، ليجفل منهم الناس ويجتنبوهم، ومن هنا نعلم أن الفتن والشر لا يأتي إلا من هذه الطائفة الخسيسة. 

فتنة البكري الأشعري

وهي خامس فتنة أوقعها المتكلمون

قال ابن الجوزي في المنتظم: في حوادث سنة 475هـ: "وفي يوم الجمعة لخمس بقين من شوال، عبر قاص من الأشعرية يقال له البكري إلى جامع المنصور ومعه الفضولي الشحنة والأتراك والعجم بالسلاح فوعظ، وكان هذا البكري فيه حدة وطيش، وكان النظام قد أنفذ ابن القشيري فتلقاه الحنابلة بالسب، وكان له عرض فائق من هذا فأخذه النظام إليه، وبعث إليهم هذا الرجل، وكان ممن لا خلاق له، فأخذ يسب الحنابلة ويستخف بهم، وكان معه كتاب من النظام يتضمن الإذن له في الجلوس في المدرسة، والتكلم بمذهب الأشعرية، فجلس في الأماكن كلها، وقال: لا بد من جامع المنصور. فقيل لنقيب النقباء، فقال: لا طاقة لي بأهل باب البصرة فقيل: لا بد من مداراة هذا الأمر. فقال: ابعثوا إلى أصحاب الشحنة، فأقام على كل باب من أبواب الجامع تركيا، ونادى من باب البصرة وتلك الأصقاع دعوا لنا اليوم الجامع، فمنعهم من الحضور، وحضر الفضولي الشحنة والأتراك والعجم بالسلاح، وصعد المنبر وقال: وما كفر سليمان ولكن الشياطين كفروا، ما كفر أحمد بن حنبل، وإنما أصحابه، وفجاء الآجر فأخذ النقيب قوام الجامع، وقال: هذا من أين؟ فقالوا: إن قوما من الهاشميين تبطنوا السقف وفعلوا هذا. وكان الحنابلة يكتبون إليه العجائب – أي إلى النقيب - فيستخف بهم في جوابها، واتفق أنه – أي البكري - عبر إلى قاضي القضاة أبي عبد الله في يوم الأحد ثالث عشر شوال فاجتاز في نهر القلائين، فجرى بين أصحابه وأصحاب أبي الحسين بن الفراء سباب وخصام، فعاد إلى العميد وأعلمه بذلك، فبعث من وكل بدار ابن الفراء ونهبت الدار، وأخذ منها كتاب "الصفات" وجعله العميد بين يديه – أي بين يدي البكري - يقرئه لكل من يدخل إليه ويقول: أيجوز لمن يكتب هذا أن يحمى أو يؤوى في بلد؟ قال المصنف: قرأت بخط ابن عقيل: أنه لما انفذ نظام الملك بأبي نصر ابن القشيري تكلم بمذهب أبي الحسن، فقابلوه بأسخف كلام على ألسن العوام، فصبر لهم هنيئة، ثم أنفذ البكري سفيها طرقيا شاهد أحواله الإلحاد، فحكى عن الحنابلة ما لا يليق بالله سبحانه، فأغرى بشتمهم وقال: هؤلاء يقولون لله ذكر فرماه الله في ذلك العضو بالخبيث فمات" اهـ

أما ابن الأثير فصاغ الخبر بطريقة أظهرت أن البكري لم يكن يتمتع بأي حماية من طرف السلطة في ذلك الوقت، والحق أن الاشاعرة كانوا إذ ذاك قليلة وذليلة، وإنما قوية شوكتهم وعز جانبهم بعد أن مال إليهم نظام الملك، وزير السلطان السلجوقي ألب أرسلان، فاستخدموا القوة لفرض مذهبهم، وأشعلوا بسبب ذلك العديد من الفتن، نشرا لضلالاتهم، ومحاربة للحق أهله، فقال ابن الأثير: "ورد إلى بغداد هذه السنة الشريف أبو القاسم البكري، المغربي، الواعظ، وكان أشعري المذهب، وكان قد قصد نظام الملك، فأحبه ومال إليه، وسيره إلى بغداذ، وأجرى عليه الجراية الوافرة، فوعظ بالمدرسة النظامية، وكان يذكر الحنابلة ويعيبهم، ويقول: (وما كفر سليمان ولكن الشياطين كفروا) والله ما كفر أحمد ولكن أصحابه كفروا. ثم إنه قصد يوما دار قاضي القضاة أبي عبد الله الدامغاني بنهر القلائين، فجرى بينه وبين بعض أصحابه وبين قوم من الحنابلة مشاجرة أدت إلى الفتنة، وكثر جمعه، فكبس دور بني الفراء، وأخذ كتبهم، وأخذ منها كتاب الصفات (لأبي يعلى) فكان يقرأ بين يديه وهو جالس على الكرسي للوعظ، فيشنع به عليهم، وجرى له معهم خصومات وفتن، ولقب البكري من الديوان بعلم السنة، ومات ببغداذ، ودفن عند قبر أبي الحسن الأشعري" اهـ

فنجد ابن الأثير هنا، لم يذكر شيئا عن تعمد البكري أذية الحنابلة، بدخول جامعهم رغما عنهم، وتكفيرهم من على منبرهم، كما يحاول هنا أن يوهم القراء، أن من قام بكبس دور بني الفراء هو البكري وأصحابه، بينما من قام بذلك هو العميد، نفذ ذلك بقوة السلطة، وبقوة السلاح، وأما الأشاعرة في ذلك الوقت، فكانوا أذل من أن يقدموا على شيء من ذلك، ولم يقم العميد والنقيب بفعل هذا الشيء إلأا خوفا من نظام الملك وزير السلطان السلجوقي، فكان العميد والنقيب والخليفة برأسه، وكأنهم رعايا وخدم عند نظام الملك.

وطريقة صياغة ابن الأثير للخبر تجعل من البكري رجلا صالحا بعد أن وصفه ابن عقيل بأنه كان سفيها طرقيا كذابا شاهد أحواله الإلحاد، كما تضفي عليه وعلى أتباعه صفة الشجاعة والإقدام، فقد استطاع أن يهجم على دور آل الفراء وانتزاع كتابهم من مكتبتهم، وكأ، عسكر السلطان ليسوا هم من فعل ذلك!

فتنة سبط ابن فورك

وهي سادس فتنة أوقعها المتكلمون

قال ابن حجر الأشعري في كتابه لسان الميزان في ترجمة سبط ابن فورك: "أحمد بن محمد بن الحسن بن محمد بن إبراهيم الفوركي، سبط القاضي أبي بكر بن فورك، عن القاضي أبي بكر الحيري، قال ابن ناصر: كان يدعو إلى بدعته، وقال ابن خيرون: وكان سماعه صحيحا، قلت: وقول ابن ناصر، يريد أنه كان أشعريا، قال ابن السمعاني: كان متكلما فاضلا واعظا درس الكلام على ابن الحسين القزاز وتزوج بنت القشيري الوسطي ولزم العسكر وبسببه قامت الفتنة بين الأشاعرة والحنابلة وكان يعظ في النظامية وسمعت أنه كان يلبس الحرير وكان سماعه بخط أبي صالح المؤذن سألت عنه الأنماطي فقال كان يأخذ مكس الفحامين ومات في شعبان سنة ثمان وسبعين وأربع مائة" اهـ

ولم يذكر ابن حجر تفاصيل هذ الفتنة، ولكن لعله يعني إحدى الفتن السابقة، وصرّح أن سبب إشعالها، هو سبط ابن فورك الأشعري، وقد ذكر أبو المحاسن الأتابكي سبط ابن فورك هذا في تاريخه "النجوم الزاهرة" ووصفه بأنه كان قبيح السيرة!

فتنة عيسى بن عبد الله بن القاسم الغزنوي

وهي سابع فتنة أوقعها المتكلمون

قال ابن الجوزي في حوادث سنة 495هـ: "وفي هذه السنة قدم إلى بغداد أبو المؤيد عيسى بن عبد الله الغزنوي ووعظ في الجامع وأظهر المذهب الأشعري ومال معه صاحب المخزن ابن الفقيه فوقعت فتنة وجاز يوما من مجلسه ماضيا إلى منزله برباط أبي سعد الصوفي، فرجم من مسجد ابن جردة فارتفع بذلك سوقه وكثر أصحابه، وخرج من بغداد في ربيع الآخر سنة ست وتسعين، كفانت إقامته سنة وبعض أخرى" اهـ

وقال أيضا في حوادث سنة 498هـ: "كان واعظا شاعرا كاتبا، ورد بغداد فسمع السراج بن الطيوري، ووعظ بها ونفق ونصر مذهب الأشعري، فأخرج من بغداد فخرج في السنة التي قبل هذه، وقيل في هذه السنة، وربما قيل في السنة التي بعدها، خرج يقصد غزنة فتوفي في الطريق بأسفرايين" اهـ

وقال ابن كثير: "وفيها قدم عيسى بن عبد الله الغزنوي، فوعظ الناس، وكان شافعيا أشعريا، فوقعت فتنة بين الحنابلة والأشعرية ببغداد" اهـ

فتنة ابن العبادي سنة 546هـ

وهي ثامن فتنة أوقعها المتكلمون

قال ابن الجوزي في المنتظم: "وسأل ابن العبادي أن يجلس في جامع المنصور فقيل له: لا تفعل فإن أهل الجانب الغربي لا يمكنون إلا الحنابلة فلم يقبل فضمن له نقيب النقباء واستاذ الدار وخلق كثير الحماية، فجلس يوم الجمعة خامس ذي الحجة في الرواق وحضر النقيبان وأستاذ الدار وخلق كثير، فلما شرع في الكلام أخذته الصيحات من الجوانب ونفر الناس وضربوا بالآجر فتفرق الناس منهزمين كل قوم يطلبون جهة، وأخذت عمائم الناس وفوطهم وجذبت السيوف حوله وتجلد وثبت وسكن الناس وتكلم ساعة ونزل وأرباب الدولة يحفظونه حتى انحدر وقد طار لبه" اهـ

فتنة أبو الحسن البلخي 548هـ

وهي تاسع فتنة أوقعها المتكلمون

قال ابن الأثير في ترجمة البلخي أبو الحسن علي بن الحسن بن محمد الذي تنسب إليه المدرسة البلخية بباب البريد: "هو الإمام، أبو الحسن علي بن الحسن بن محمد البلخي، الحنفي، نزيل دمشق، ومدرس الصادرية وعظ وأقرأ وجعلت له دار الأمير طرخان مدرسة، وثارت عليه الحنابلة لأنه نال منهم، وكان ذا جلالة ووجاهة، ويلقب بالبرهان البلخي" اهـ

قلت: وصدق، هو إمام، ولكنه إمام إلى النار، إن شاء الله.

فتنة محمد البروي الهالك سنة 567هـ

وهي عاشر فتنة أوقعها المتكلمون

قال ابن الجوزي: "محمد بن محمد بن محمد، أبو المظفر البروي. تفقه على محمد بن يحيى وناظر ووعظ وقدم بغداد فجلس للوعظ في أول ولاية المستضيء وأظهر مذهب الأشعري وتعصب على الحنابلة وبالغ فأخذه قيام الدم في رمضان هذه السنة في يوم. وتوفي ودفن في تربة أبي إسحاق الشيرازي" اهـ

فتنة أبو الفتوح الإسفراييني سنة 538هـ

وهي الفتنة الحادية عشر التي أوقعها المتكلمون

قال ابن الجوزي: "وأبو الفتوح الأسفراييني محمد بن الفضل بن محمد، ويعرف أيضا بابن المعتمد، الواعظ المتكلم. روى عن أبي الحسن بن الأخرم المديني. ووعظ ببغداد. وجعل شعاره إظهار مذهب الأشعري، وبالغ في ذلك حتى هاجت فتنة كبيرة بين الحنابلة والأشعرية. فأخرج من بغداد، فغاب مدة ثم قدم وأخذ يثير الفتنة ويبث اعتقاده. ويذم الحنابلة. فأخرج من بغداد وألزم بالإ قامة ببلده. فأدركه الموت ببسطام في ذي الحجة. وكان رأسا في الوعظ، أوحد في مذهب الأشعري. له تصانيف في الأصول والتصوف. وقال أبو طالب بن الحديثي القاضي: كنت جالسا فمر أبو الفتوح وحوله جم غفير وفيهم من يصيح يقول: لا بحرف ولا بصوت بل عبارة. فرجمه العوام، وكان هناك كلب ميت فتراجموا به، وصار من ذاك فتنة كبيرة. والإسفراييني هذا هو أحد مشايخ ابن عساكر الدمشقي" اهـ

فتنة مرجان الخادم

وهي الفتنة الثانية عشر التي أوقعها المتكلمون

قال ابن الجوزي: "مرجان الخادم كان يقرأ القرآن ويعرف شيئا من مذهب الشافعي وتعصب على الحنابلة فوق الحد حتى أن الحطيم الذي كان برسم الوزير ابن هبيرة بمكة يصلي فيه ابن الطباخ الحنبلي مضى مرجان وأزاله من غير تقدم بغضا للقوم وناصبني دون الكل. وبلغني أنه كان يقول: مقصودي قلع هذا المذهب، فلما مات الوزير ابن هبيرة سعى بي إلى الخليفة وقال عنده كتب من كتب الوزير فقال الخليفة هذا محال فإن فلانا كان عنده أحد عشر دينارا لأبي حكيم وكان حشريا فما فعل فيها شيئا حتى طالعنا. فنصرني الله عليه ودفع شره. ولقد حدثني سعد الله البصري وكان رجلا صالحا وكان مرجان حينئذ في عافية قال: رأيت مرجان في المنام ومعه اثنان قد أخذا بيده فقلت إلى أين؟ قالا إلى النار، قلت لماذا؟ قالا: كان يبغض ابن الجوزي. ولما قويت عصبيته لجأت إلى الله سبحانه ليكفيني شره فما مضت إلا أيام حتى أخذه السل. فمات يوم الأربعاء، حادي عشر ذي القعدة من هذه السنة ودفن بالترب" اهـ

فتنة البوري الأشعري567هـ

وهي الفتنة الثالثة عشر التي أوقعها المتكلمون

قال ابن الأثير: "وفيها مات البوري الفقيه الشافعي، تفقه على محمد بن يحيى، وقدم بغداد ووعظ، وكان يذم الحنابلة، وكثرت أتباعه، فأصابه إسهال، فمات هو وجماعة من أصحابه، فقيل: إن الحنابلة أهدوا له حلواء فمات هو وكل من أكل منها" اهـ

قلت: ودعوى ابن الأثير أن الحنابلة هم من أهداه هذه الحلوى كلام فارغ، وابن الأثير كذاب، فقد رم معنا كيف قام بتحريف التاريخ وتزويره لصالح الأشعرية، وكما سوف يأتي معنا أيضا، تحريفه لرسالة الخليفة العباسي للحنابلة، فمنذ متى كان الحنابلة يهدون الأشاعرة، خصوصاً من يذمهم وينال منهم الهدايا!! 

فتنة محمد الطوسي سنة 579هـ

وهي الفتنة الرابعة عشر التي أوقعها المتكلمون

قال الذهبي في السير: "الشهاب الطوسي محمد بن محمود بن محمد... قال أبو شامة: قيل إنه قدم بغداد، فكان يركب بالسنجق والسيوف المسللة والغاشية والطوق في عنق البغلة، فمنع من ذلك، فسافر إلى مصر، ووعظ، وأظهر مقالة الأشعري، فثارت الحنابلة، وكان يجري بينه وبين زين الدين ابن نجية كبيرهم العجائب والسب" اهـ

وقال المقريزي في السلوك لمعرفة دول الملوك: "وفي سابعه جرت فتنة بين الأشاعرة والحنابلة سببها إنكار الحنابلة على الشهاب الطوسي تكلمه في مسألة من مسائل الكلام في مجلس وعظه وترافعوا إلى الملك المظفر بمخيمه فرسم برفع كراسي وعظ الفريقين وقد أطلق كل من الفريقين لسانه في الآخر" اهـ 

فتنة ابن عبدالسلام

وهي الفتنة الخامسة عشر التي أوقعها المتكلمون

قال في الذهبي في السير: "وكان للأشرف ميل إلى المحدثين والحنابلة؛ قال ابن واصل: وقعت فتنة بين الشافعية والحنابلة بسبب العقائد، قال: وتعصب الشيخ عز الدين بن عبد السلام على الحنابلة، وجرت خبطة، حتى كتب عز الدين إلى الأشرف يقع فيهم، وأن الناصح ساعد على فتح باب السلامة لعسكر الظاهر والأفضل عندما حاصروا العادل، فكتب الأشرف: يا عز الدين، الفتنة ساكنة لعن الله مثيرها، وأما باب السلامة فكما قيل:

وجرم جره سفهاء قوم... فحل بغير جانيه العذاب" اهـ

محنة الحنابلة مع الملك "العزيز" ملك مصر

وهي الفتنة السادسة عشر التي أوقعها المتكلمون

قال ابن كثير: "وفيها كانت وفاة الملك العزيز صاحب مصر وذلك أنه خرج إلى الصيد، فلما كان ليلة الأحد العشرين من المحرم، ساق خلف ذئب، فكبا به الفرس فسقط عنه، وكانت وفاته بعد أيام بعد رجوعه إلى البلد، فنقل ودفن بداره، ثم حول إلى عند تربة الشافعي، وله سبع أو ثمان وعشرون سنة؛ رحمه الله. ويقال: إنه كان قد عزم في هذه السنة على إخراج الحنابلة من بلده، ويكتب إلى بقية إخوته أن يخرجوهم من بلادهم، وشاع ذلك عنه وسمع منه وذاع وصرح به، وكل ذلك من معلميه وخلطائه وعشرائه من الجهمية، وقلة علمه بالقرآن والحديث، فلما وقع ما وقع عظم قدر الحنابلة بديار مصر والشام عند الخاص والعام. وقيل: إن بعض صالحيهم دعا عليه، فما هو إلا أن خرج إلى الصيد، فكان هلاكه سريعا، فالله أعلم" اهـ 

قلت: ومن عجائب ابن كثير أنه إذا غضب على الأشاعرة قال جهمية وإذا رضي عنهم قال شافعية!!!

فتنة الجيلي

وهي الفتنة السابعة عشر التي أوقعها المتكلمون

اقل ابن كثير: "عزيزي بن عبد الملك بن منصور أبو المعالي الجيلي القاضي، الملقب شيذله، كان شافعيا في الفروع أشعريا في الأصول، وكان حاكما بباب الأزج، وكان بينه وبين أهل باب الأزج من الحنابلة شنآن كبير، سمع رجلا ينادي على حمار له ضائع فقال: يدخل باب الأزج ويأخذ بيد من شاء. وقال يوما للنقيب طراد الزينبي: لو حلف إنسان أنه لا يرى إنسانا فرأى أهل باب الأزج لم يحنث، فقال له الشريف: من عاشر قوما أربعين يوما فهو منهم، ولهذا لما مات فرحوا بموته كثيرا" اهـ

فتنة ان تومرت

وهي الفتنة الثامنة عشر التي أوقعها المتكلمون

وهي أعظمها وأكثرها شرا وشررا

قال ابن الأثير في حوادث سنة 514هـ: "في هذه السنة كان ابتداء أمر المهدي أبي عبد الله محمد بن عبد الله بن تومرت العلوي، الحسني، وقبيلته من المصامدة، تعرف بهرغة في جبل السوس، من بلاد المغرب، نزلوا به لما فتحه المسلمون مع موسى بن نصير، ونذكر أمره وأمر عبد المؤمن هذه السنة إلى أن فرغ من ملك المغرب لنتبع بعض الحادثة بعضا. وكان ابن تومرت قد رحل في شبيبته إلى بلاد الشرق في طلب العلم .. ووصل في سفره إلى العراق، واجتمع بالغزالي، وإلكيا، واجتمع بأبي بكر الطرطوشي بالإسكندرية .. فحج من هناك وعاد إلى المغرب، ولما ركب البحر من الإسكندرية، مغربا، غير المنكر في المركب، وألزم من به بإقامة الصلاة، وقراءة القرآن، حتى انتهى إلى المهدية، وسلطانها حينئذ يحيى بن تميم، سنة خمس وخمسمائة، فنزل بمسجد .. وليس له سوى ركوة، وعصا، وتسامع به أهل البلد، فقصدوه يقرءون عليه أنواع العلوم، وكان إذا مر به منكر غيره وأزاله، فلما كثر ذلك منه أحضره الأمير يحيى مع جماعة من الفقهاء، فلما رأى سمته وسمع كلامه أكرمه واحترمه، وسأله الدعاء. ورحل عن المدينة .. وسار إلى بجاية ففعل فيها مثل ذلك، فأخرج منها إلى قرية بالقرب منها اسمها ملالة، فلقيه بها عبد المؤمن بن علي، فرأى فيه من النجابة والنهضة ما تفرس فيه التقدم، والقيام بالأمر، فسأله عن اسمه وقبيلته، فأخبره أنه من قيس عيلان، ثم من بني سليم، فقال ابن تومرت: هذا الذي بشر به النبي صلى الله عليه وسلم، حين قال: «إن الله ينصر هذا الدين، في آخر الزمان، برجل من قيس، فقيل: من أي قيس؟ فقال: من بني سليم» . فاستبشر بعبد المؤمن وسر بلقائه .. ولم يزل المهدي ملازما للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في طريقه إلى أن وصل إلى مراكش دار مملكة أمير المسلمين يوسف بن علي بن تاشفين، فرأى فيها من المنكرات أكثر مما عاينه في طريقه، فزاد في أمره بالمعروف ونهيه عن المنكر، فكثر أتباعه، وحسنت ظنون الناس فيه، فبينما هو في بعض الأيام في طريقه، إذ رأى أخت أمير المؤمنين في موكبها، ومعها من الجواري الحسان عدة كثيرة، وهن مسفرات، وكانت هذه عادة الملثمين يسفر نساؤهم عن وجوههن، ويتلثم الرجال، فحين رأى النساء كذلك أنكر عليهن، وأمرهن بستر وجوههن وضرب هو وأصحابه دوابهن، فسقطت أخت أمير المسلمين عن دابتها، فرفع أمره إلى أمير المسلمين علي بن يوسف، فأحضره، وأحضر الفقهاء ليناظره، فأخذ يعظه ويخوفه، فبكى أمير المسلمين، وأمر أن يناظره الفقهاء، فلم يكن فيهم من يقوم له لقوة أدلته في الذي فعله – أي فيما ذهب إليه من وجوب تغطية وجوه النساء - وكان عند أمير المسلمين بعض وزرائه يقال له مالك بن وهيب، فقال: يا أمير المسلمين، إن هذا والله لا يريد الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، إنما يريد إثارة فتنة، والغلبة على بعض النواحي، فاقتله وقلدني دمه. فلم يفعل ذلك، فقال: إن لم تقتله فاحبسه، وخلده في السجن، وإلا أثار شرا لا يمكن تلافيه. فأراد حبسه، فمنعه رجل من أكابر الملثمين يسمى بيان بن عثمان فأمر بإخراجه من مراكش، فسار إلى أغمات، ولحق .. بالسوس الذي فيه قبيلة هرغة وغيرهم من المصامدة سنة أربع عشرة وخمسمائة، فأتوه، واجتمعوا حوله. وتسامع به أهل تلك النواحي، فوفدوا عليه، وحضر أعيانهم بين يديه وجعل يعظهم، ويذكرهم بأيام الله، ويذكر لهم شرائع الإسلام، وما غير منها، وما حدث من الظلم والفساد، وأنه لا يجب طاعة دولة من هذه الدول لاتباعهم الباطل، بل الواجب قتالهم، ومنعهم عما هم فيه، فأقام على ذلك نحو سنة، وتابعته هرغة قبيلته، وسمى أتباعه الموحدين وأعلمهم أن النبي، صلى الله عليه وسلم بشر بالمهدي الذي يملأ الأرض عدلا، وأن مكانه الذي يخرج منه المغرب الأقصى، فقام إليه عشرة رجال، أحدهم عبد المؤمن، فقالوا: لا يوجد هذا إلا فيك فأنت المهدي، فبايعوه على ذلك. فانتهى خبره إلى أمير المسلمين، فجهز جيشا من أصحابه وسيرهم إليه، فلما قربوا من الجبل الذي هو فيه قال لأصحابه: إن هؤلاء يريدونني، وأخاف عليكم منهم، فالرأي أن أخرج بنفسي إلى غير هذه البلاد لتسلموا أنتم، فقال له ابن توفيان من مشايخ هرغة: هل تخاف شيئا من السماء؟ فقال: لا، بل من السماء تنصرون، فقال ابن توفيان: فليأتنا كل من في الأرض. ووافقه جميع قبيلته، فقال المهدي: أبشروا بالنصر والظفر بهذه الشرذمة، وبعد قليل تستأصلون دولتهم، وترثون أرضهم، فنزلوا من الجبل، ولقوا جيش أمير المسلمين، فهزموهم، وأخذوا أسلابهم، وقوي ظنهم في صدق المهدي، حيث ظفروا، كما ذكر لهم. وأقبلت إليه أفواج القبائل، من الحلل التي حوله، شرقا وغربا، وبايعوه، وأطاعته قبيلة هنتاتة، وهي من أقوى القبائل، فأقبل عليهم، واطمأن إليهم، وأتاه رسل أهل تين ملل بطاعتهم، وطلبوه إليهم، فتوجه إلى جبل تين ملل واستوطنه، وألف لهم كتابا في التوحيد، وكتابا في العقيدة، ونهج لهم طريق الأدب بعضهم مع بعض، والاقتصار على القصير من الثياب، القليل الثمن، وهو يحرضهم على قتال عدوهم، وإخراج الأشرار من بين أظهرهم. وأقام بتين ملل وبنى له مسجدا خارج المدينة، فكان يصلي فيه الصلوات هو وجمع ممن معه عنده، ويدخل البلد بعد العشاء الآخرة، فلما رأى كثرة أهل الجبل، وحصانة المدينة، خاف أن يرجعوا عنه، فأمرهم أن يحضروا بغير سلاح، ففعلوا ذلك عدة أيام، ثم إنه أمر أصحابه أن يقتلوهم، فخرجوا عليهم وهم غارون فقتلوهم في ذلك المسجد، ثم دخل المدينة فقتل فيها وأكثر، وسبى الحريم، ونهب الأموال، فكان عدة القتلى خمسة عشر ألفا، وقسم المساكن والأرض بين أصحابه، وبنى على المدينة سورا، وقلعة على رأس جبل عال. وفي جبل تين ملل أنهار جارية، وأشجار، وزروع، والطريق إليه صعب، فلا جبل أحصن منه".

فصل: وقد ذكر ابن الأثير أن سبب خوف ابن تومرت من أهل الجبل، أنه عند قدومه إليهم رأى عمّال أمير المسلمين تجبي زكاة أموالهم، وكان قد عقد العزم على الخروج عليهم، فحرّص أهل الجبل على قتل عمال أمير المسلمين، فوثبوا عليهم فقتلواهم، فأرسل إليهم أمير المسلمين جيشا قويا، فحصروهم في الجبل، وضيقوا عليهم، ومنعوا عنهم الميرة، فقلّْت عند أصحاب المهدي الأقوات، حتى صار الخبز معدوما عندهم، وكان يطبخ لهم كل يوم من الحساء ما يكفيهم، فكان قوت كل واحد منهم أن يغمس يده في ذلك الحساء ويخرجها، فما علق عليها قنع ذلك اليوم، فاجتمع أعيان أهل تين ملل، وأرادوا إصلاح الحال مع أمير المسلمين، فبلغ الخبر بذلك المهدي بن تومرت، فاحتال عليهم وقتلهم كما تقدم، وسمّي ذلك اليوم، يوم التمييز.

قال ابن الأثير: "ولما فرغ ابن تومرت من التمييز، رأى أصحابه الباقين على نيات صادقة، وقلوب متفقة على طاعته، فجهز منهم جيشا وسيرهم إلى جبال أغمات، وبها جمع من المرابطين، فقاتلوهم، فانهزم أصحاب ابن تومرت، وكان أميرهم أبو عبد الله الونشريشي، وقتل منهم كثير، وجرح عمر الهنتاني، وهو من أكبر أصحابه، وسكن حسه ونبضه، فقالوا: مات! فقال الونشريشي: أما إنه لم يمت، ولا يموت حتى يملك البلاد. فبعد ساعة فتح عينيه، وعادت قوته إليه، فافتتنوا به".

فصل: قلت: يبدو أن الونشريسي لما جسّ الهنتاني علم أنه لم يمت وأنه إنما غشي عليه، فأراد أن يخدع أصحابه بهذه الحيلة ليقوى اعتقادهم فيه وفي شيخه ابن تومرت.

قال ابن الأثر: "وعادوا منهزمين إلى ابن تومرت، فوعظهم، وشكرهم على صبرهم. ثم لم يزل بعدها يرسل السرايا في أطراف بلاد المسلمين، فإذا رأوا عسكرا تعلقوا بالجبل فأمنوا. وكان المهدي قد رتب أصحابه مراتب، فالأولى يسمون أيت عشرة يعني أهل عشرة، وأولهم عبد المؤمن، ثم أبو حفص الهنتاتي، وغيرهما، وهم أشرف أصحابه، وأهل الثقة عنده، السابقون إلى متابعته، والثانية: أيت خمسين، يعني أهل خمسين، وهم دون تلك الطبقة، وهم جماعة من رؤساء القبائل، والثالثة: أيت سبعين، يعني أهل سبعين، وهم دون التي قبلها، وسمي عامة أصحابه والداخلين في طاعته موحدين، فإذا ذكر الموحدون في أخبارهم فإنما يعنى أصحابه وأصحاب عبد المؤمن بعده. ولم يزل أمر ابن تومرت يعلو إلى سنة أربع وعشرين وخمسمائة، فجهز المهدي جيشا كثيفا يبلغون أربعين ألفا، أكثرهم رجالة، وجعل عليهم الونشريشي، وسير معهم عبد المؤمن، فنزلوا وساروا إلى مراكش فحصروها، وضيقوا عليها، وبها أمير المسلمين علي بن يوسف، فبقي الحصار عليها عشرين يوما، فأرسل أمير المسلمين إلى متولي سجلماسة يأمره أن يحضر ومعه الجيوش، فجمع كثيرا، وسار، فلما قارب عسكر المهدي خرج أهل مراكش من غير الجهة التي أقبل منها، فاقتتلوا، واشتد القتال، وكثر القتل في أصحاب المهدي، فقتل الونشريشي أميرهم، فاجتمعوا إلى عبد المؤمن وجعلوه أميرا عليهم. ولم يزل القتال بينهم عامة النهار، وصلى عبد المؤمن صلاة الخوف، الظهر والعصر، والحرب قائمة، ولم تصل بالمغرب قبل ذلك، فلما رأى المصامدة كثرة المرابطين، وقوتهم، أسندوا ظهورهم إلى بستان كبير هناك، والبستان يسمى عندهم البحيرة، فلهذا قيل وقعة البحيرة، وعام البحيرة، وصاروا يقاتلون من جهة واحدة إلى أن أدركهم الليل، وقد قتل من المصامدة أكثرهم، وحين قتل الونشريشي دفنه عبد المؤمن فطلبه المصامدة، فلم يروه في القتلى فقالوا: رفعته الملائكة، ولما جنهم الليل سار عبد المؤمن ومن سلم من القتل إلى الجبل. ولما سير – المهدي - الجيش إلى حصار مراكش مرض مرضا شديدا، فلما بلغه خبر الهزيمة اشتد مرضه، وسأل عن عبد المؤمن، فقيل: هو سالم، فقال: ما مات أحد، الأمر قائم، وهو الذي يفتح البلاد. ووصى أصحابه باتباعه، وتقديمه، وتسليم الأمر إليه، والانقياد له، ولقبه أمير المؤمنين. ثم مات المهدي، وكان عمره إحدى وخمسين سنة، وقيل: خمسا وخمسين سنة، ومدة ولايته عشرين سنة، وعاد عبد المؤمن إلى تين ملل، وأقام بها يتألف القلوب، ويحسن إلى الناس، وكان جوادا مقداما في الحروب، ثابتا في الهزاهز، إلى أن دخلت سنة ثمان وعشرين وخمسمائة، فتجهز وسار في جيش كثير، وجعل يمشي مع الجبل إلى أن وصل إلى تادلة، فمانعه أهلها، وقاتلوه، فقهرهم، وفتحها وسائر البلاد التي تليها ومشى في الجبال يفتح ما امتنع عليه، وأطاعته صنهاجة الجبل. وكان أمير المسلمين قد جعل ولي عهده ابنه سير، فمات، فأحضر أمير المسلمين ابنه تاشفين من الأندلس، وكان أميرا عليها، فلما حضر عنده جعله ولي عهده سنة إحدى وثلاثين وخمسمائة، وجعل معه جيشا، وصار يمشي في الصحراء قبالة عبد المؤمن في الجبال. وفي سنة اثنتين وثلاثين كان عبد المؤمن في النواظر، وهو جبل عال مشرف، وتاشفين في الوطأة، وكان يخرج من الطائفتين قوم يترامون ويتطاردون، ولم يكن بينهما لقاء، ويسمى عام النواظر. وفي سنة ثلاث وثلاثين توجه عبد المؤمن، مع الجبل، في الشعراء، حتى انتهى إلى جبل كرناطة، فنزل في أرض صلبة، بين شجر، ونزل تاشفين قبالته، في الوطأة في أرض لا نبات فيها، وكان الفصل شاتيا، فتوالت الأمطار أياما كثيرة لا تقلع، فصارت الأرض التي فيها تاشفين وأصحابه كثيرة الوحل، تسوخ فيها قوائم الخيل إلى صدورها، ويعجز الرجل عن المشي فيها، وتقطعت الطرق عنهم، فأوقدوا رماحهم، وقرابيس سروجهم، وهلكوا جوعا وبردا وسوء حال. وكان عبد المؤمن وأصحابه في أرض خشنة صلبة في الجبل، لا يبالون بشيء، والميرة متصلة إليهم، وفي ذلك الوقت سير عبد المؤمن جيشا إلى وجرة من أعمال تلمسان، ومقدمهم أبو عبد الله محمد بن رقو، وهو من أيت خمسين، فبلغ خبرهم إلى محمد بن يحيى بن فانوا، متولي تلمسان، فخرج في جيش من الملثمين، فالتقوا بموضع يعرف بخندق الخمر، فهزمهم جيش عبد المؤمن، وقتل محمد بن يحيى وكثير من أصحابه، وغنموا ما معهم ورجعوا، فتوجه عبد المؤمن بجميع جيشه إلى غمارة، فأطاعوه قبيلة بعد قبيلة، وأقام عندهم مدة. وما برح يمشي في الجبال، وتاشفين يحاذيه في الصحاري، فلم يزل عبد المؤمن كذلك إلى سنة خمس وثلاثين، فتوفي أمير المسلمين علي بن يوسف بمراكش وملك بعده ابنه تاشفين، فقوي طمع عبد المؤمن في البلاد، إلا أنه لم ينزل الصحراء. وفي سنة ثمان وثلاثين توجه عبد المؤمن إلى تلمسان، فنازلها، وضرب خيامه في جبل بأعلاها، ونزل تاشفين على الجانب الآخر من البلد، وكان بينهم مناوشة، فبقوا كذلك إلى سنة تسع وثلاثين، فرحل عبد المؤمن عنها إلى جبل تاجرة، ووجه جيشا مع عمر الهنتاتي إلى مدينة وهران، فهاجمها بغتة، وحصل هو وجيشه فيها، فسمع بذلك عبد المؤمن فسار إليها، فخرج منها عمر، ونزل تاشفين بظاهر وهران، على البحر، في شهر رمضان سنة تسع وثلاثين، فجاءت ليلة سبع وعشرين منه، وهي ليلة يعظمها أهل المغرب، وبظاهر وهران ربوة مطلة على البحر، وبأعلاها ثنية يجتمع فيها المتعبدون وهو موضع معظم عندهم، فسار إليه تاشفين في نفر يسير من أصحابه متخفيا لم يعلم به إلا النفر الذين معه، وقصد التبرك بحضور ذلك الموضع مع أولئك الجماعة الصالحين، فبلغ الخبر إلى عمر بن يحيى الهنتاتي، فسار لوقته بجميع عسكره إلى ذلك المتعبد، وأحاطوا به، وملكوا الربوة، فلما خاف تاشفين على نفسه أن يأخذوه ركب فرسه وحمل عليه إلى جهة البحر، فسقط من جرف عال على الحجارة فهلك، ورفعت جثته على خشبة، وقتل كل من كان معه. وقيل إن تاشفين قصد حصنا هناك على رابية، وله فيه بستان كبير فيه من كل الثمار، فاتفق أن عمر الهنتاتي، مقدم عسكر عبد المؤمن، سير سرية إلى الحصن، يعلمهم بضعف من فيه، ولم يعلموا أن تاشفين فيه، فألقوا النار في بابه فاحترق، فأراد تاشفين الهرب، فركب فرسه، فوثب الفرس من داخل الحصن إلى خارج السور، فسقط في النار، فأخذ تاشفين، فاعترف، فأرادوا حمله إلى عبد المؤمن، فمات في الحال لأن رقبته كانت قد اندقت، فصلب، وقتل كل من معه، وتفرق عسكره ولم يعد لهم جماعة. وملك بعده أخوه إسحاق بن علي بن يوسف. ولما قتل تاشفين أرسل عمر إلى عبد المؤمن بالخبر، فجاء من تاجرة في يومه بجميع عسكره، وتفرق عسكر أمير المسلمين، واحتمى بعضهم بمدينة وهران، فلما وصل عبد المؤمن دخلها بالسيف، وقتل فيها ما لا يحصى. ثم سار إلى تلمسان، وهما مدينتان بينهما شوط فرس، إحداهما تاهرت، وبها عسكر المسلمين، والأخرى أقادير، وهي بناء قديم، فامتنعت أقادير، وغلقت أبوابها، وتأهب أهلها للقتال. وأما تاهرت، فكان فيها يحيى بن الصحراوية، فهرب منها بعسكره إلى مدينة فاس، وجاء عبد المؤمن إليها، فدخلها لما فر منها العسكر، ولقيه أهلها بالخضوع والاستكانة، فلم يقبل منهم ذلك وقتل أكثرهم، ودخلها عسكره، ورتب أمرها، ورحل عنها، وجعل على أقادير جيشا يحصرها، وسار إلى مدينة فاس سنة أربعين وخمسمائة فنزل على جبل مطل عليها، وحصرها تسعة أشهر، وفيها يحيى بن الصحراوية، وعسكره الذين فروا من تلمسان، فلما طال مقام عبد المؤمن عمد إلى نهر يدخل البلد فسكره بالأخشاب والتراب وغير ذلك، فمنعه من دخول البلد، وصار بحيرة تسير فيها السفن، ثم هدم السكر، فجاء الماء دفعة واحدة فخرب سور البلد، وكل ما يجاور النهر من البلد، وأراد عبد المؤمن أن يدخل البلد فقاتله أهله خارج السور، فتعذر عليه ما قدره من دخوله. وكان بفاس عبد الله بن خيار الجياني عاملا عليها، وعلى جميع أعمالها، فاتفق هو وجماعة من أعيان البلد، وكاتبوا عبد المؤمن في طلب الأمان لأهل فاس، فأجابهم إليه، ففتحوا له بابا من أبوابها، فدخلها عسكره، وهرب يحيى بن الصحراوية، وكان فتحها آخر سنة أربعين وخمسمائة، وسار إلى طنجة ورتب عبد المؤمن أمر مدينة فاس، وأمر فنودي في أهلها: من ترك عنده سلاحا وعدة قتال حل دمه، فحمل كل من في البلد ما عندهم من السلاح إليه، فأخذه منهم. ثم رجع إلى مكناسة، ففعل بأهلها مثل ذلك، وقتل من بها من الفرسان والأجناد. وأما العسكر الذي كان على تلمسان فإنهم قاتلوا أهلها، ونصبوا المجانيق، وأبراج الخشب، وزحفوا بالدبابات، وكان المقدم على أهلها الفقيه عثمان، فدام الحصار نحو سنة، فلما اشتد الأمر على أهل البلد اجتمع جماعة منهم وراسلوا الموحدين أصحاب عبد المؤمن، بغير علم الفقيه عثمان، وأدخلوهم البلد، فلم يشعر أهله إلا والسيف يأخذهم، فقتل أكثر أهله، وسبيت الذرية والحريم، ونهب من الأموال ما لا يحصى، ومن الجواهر ما لا تحد قيمته، ومن لم يقتل بيع بأوكس الأثمان، وكان عدة القتلى مائة ألف قتيل، وقيل: إن عبد المؤمن هو الذي حصر تلمسان، وسار منها إلى فاس، والله أعلم. وسير عبد المؤمن سرية إلى مكناسة، فحصروها مدة، ثم سلمها إليهم أهلها بالأمان فوفوا لهم. وسار عبد المؤمن من فاس إلى مدينة سلا ففتحها، وحضر عنده جماعة من أعيان سبتة، فدخلوا في طاعته، فأجابهم إلى بذل الأمان، وكان ذلك سنة إحدى وأربعين وخمسمائة .. لما فرغ عبد المؤمن من فاس، وتلك النواحي، سار إلى مراكش، وهي كرسي مملكة الملثمين، وهي من أكبر المدن وأعظمها، وكان صاحبها حينئذ إسحاق بن علي بن يوسف بن تاشفين، وهو صبي، فنازلها، وكان نزوله عليها سنة إحدى وأربعين وخمسمائة، فضرب خيامه في غربيها على جبل صغير، وبنى عليه مدينة له ولعسكره، وبنى بها جامعا وبنى له بناء عاليا يشرف منه على المدينة، ويرى أحوال أهلها، وأحوال المقاتلين من أصحابه، وقاتلها قتالا كثيرا، وأقام عليها أحد عشر شهرا، فكان من بها من المرابطين يخرجون يقاتلونهم بظاهر البلد، واشتد الجوع على أهله، وتعذرت الأقوات عندهم. ثم زحف إليهم يوما، وجعل لهم كمينا، وقال لهم: إذا سمعتم صوت الطبل فاخرجوا، وجلس هو بأعلى المنظرة التي بناها يشاهد القتال، وتقدم عسكره، وقاتلوا، وصبروا، ثم إنهم انهزموا لأهل مراكش ليتبعوهم إلى الكمين الذي لهم، فتبعهم الملثمون إلى أن وصلوا إلى مدينة عبد المؤمن، فهدموا أكثر سورها، وصاحت المصامدة بعبد المؤمن ليأمر بضرب الطبل ليخرج الكمين، فقال لهم: اصبروا حتى يخرج كل طامع في البلد، فلما خرج أكثر أهله أمر بالطبل فضرب وخرج الكمين عليهم، ورجع المصامدة المنهزمين إلى الملثمين، فقتلوا كيف شاءوا، وعادت الهزيمة على الملثمين، فمات في زحمة الأبواب ما لا يحصيه إلا الله سبحانه. وكان شيوخ الملثمين يدبرون دولة إسحاق بن علي بن يوسف لصغر سنه، فاتفق أن إنسانا من جملتهم يقال له عبد الله بن أبي بكر خرج إلى عبد المؤمن مستأمنا وأطلعه على عوراتهم وضعفهم، فقوي الطمع فيهم، واشتد عليهم البلاء، ونصب عليهم المنجنيقات والأبراج، وفنيت أقواتهم، وأكلوا دوابهم، ومات من العامة بالجوع ما يزيد على مائة ألف إنسان، فأنتن البلد من ريح الموتى. وكان بمراكش جيش من الفرنج كان المرابطون قد استنجدوا بهم، فجاءوا إليهم نجدة، فلما طال عليهم الأمر راسلوا عبد المؤمن يسألون الأمان فأجابهم إليه، ففتحوا له بابا من أبواب البلد يقال له باب أغمات، فدخلت عساكره بالسيف، وملكوا المدينة عنوة، وقتلوا من وجدوا، ووصلوا إلى دار أمير المسلمين، فأخرجوا الأمير إسحاق وجميع من معه من أمراء المرابطين فقتلوا، وجعل إسحاق يرتعد رغبة في البقاء، ويدعو لعبد المؤمن ويبكي فقام إليه سير بن الحاج، وكان إلى جانبه مكتوفا فبزق في وجهه، وقال: تبكي على أبيك وأمك؟ اصبر صبر الرجال، فهذا رجل لا يخاف الله ولا يدين بدين. فقام الموحدون إليه بالخشب فضربوه حتى قتلوه، وكان من الشجعان المعروفين بالشجاعة، وقدم إسحاق على صغر سنه، فضربت عنقه سنة اثنتين وأربعين وخمسمائة، وهو آخر ملوك المرابطين وبه انقرضت دولتهم، وكانت مدة ملكهم سبعين سنة، وولي منهم أربعة: يوسف وعلي وتاشفين وإسحاق. ولما فتح عبد المؤمن مراكش أقام بها، واستوطنها واستقر ملكه. ولما قتل عبد المؤمن من أهل مراكش فأكثر فيهم القتل اختفى من أهلها، فلما كان بعد سبعة أيام أمر فنودي بأمان من بقي من أهلها، فخرجوا، فأراد أصحابه المصامدة قتلهم، فمنعهم، وقال: هؤلاء صناع، وأهل الأسواق من ننتفع به، فتركوا، وأمر بإخراج القتلى من البلد، فأخرجوهم، وبنى بالقصر جامعا كبيرا، وزخرفه فأحسن عمله، وأمر بهدم الجامع الذي بناه أمير المسلمين يوسف بن تاشفين .. في سنة ثلاث وأربعين وخمسمائة سار بعض المرابطين من الملثمين إلى دكالة، فاجتمع إليه قبائلها، وصاروا يغيرون على أعمال مراكش، وعبد المؤمن لا يلتفت إليهم، فلما كثر ذلك منهم سار إليهم سنة أربع وأربعين وخمسمائة، فلما سمعت دكالة بذلك انحشروا كلهم إلى ساحل البحر في مائتي ألف راجل وعشرين ألف فارس، وكانوا موصوفين بالشجاعة. وكان مع عبد المؤمن من الجيوش ما يخرج عن الحصر، وكان الموضع الذي فيه دكالة كثير الحجر والحزونة، فكمنوا فيه كمناء ليخرجوا على عبد المؤمن إذا سلكه، فمن الاتفاق الحسن له أنه قصدهم من غير الجهة التي فيها الكمناء، فانحل عليهم ما قدروه، وفارقوا ذلك الموضع، فأخذهم السيف، فدخلوا البحر، فقتل أكثرهم، وغنمت إبلهم وأغنامهم وأموالهم، وسبيت نساؤهم وذراريهم، فبيعت الجارية الحسناء بدارهم يسيرة، وعاد عبد المؤمن إلى مراكش مظفرا منصورا، وثبت ملكه، وخافه الناس في جميع المغرب، وأذعنوا له بالطاعة" اهـ

وقال المقريزي في المواعظ والاعتبار بذكر الخطط والآثار: "واتفق مع ذلك توجه أبي عبد الله محمد بن تومرت أحد رجالات المغرب إلى العراق، وأخذ عن أبي حامد الغزالي مذهب الأشعري، فلما عاد إلى بلاد المغرب وقام في المصامدة يفقههم ويعلمهم، وضع لهم عقيدة لقفها عنه عامتهم، ثم مات فخلفه بعد موته عبد المؤمن بن علي القيسي، وتلقب بأمير المؤمنين، وغلب على ممالك المغرب هو وأولاده من بعد مدة سنين، وتسموا بالموحدين، فلذلك صارت دولة الموحدين ببلاد المغرب تستبيح دماء من خالف عقيدة ابن تومرت، إذ هو عندهم الإمام المعلوم، المهدي المعصوم، فكم أراقوا بسبب ذلك من دماء خلائق لا يحصيها إلا الله خالقها سبحانه وتعالى، كما هو معروف في كتب التاريخ، فكان هذا هو السبب في اشتهار مذهب الأشعري وانتشاره في أمصار الإسلام، بحيث نسي غيره من المذاهب، وجهل حتى لم يبق اليوم مذهب يخالفه، إلا أن يكون مذهب الحنابلة أتباع الإمام أبي عبد الله أحمد بن محمد بن حنبل رضي الله عنه، فإنهم كانوا على ما كان عليه السلف، لا يرون تأويل ما ورد من الصفات" اهـ

هذه حقيقة ابن تومرت، نقلناها من أشعري هو ابن الأثير، من كتابه الكامل في التاريخ، ومن خلالها يتبين لنا ما يلي:

- أن ابن تومرت كان يظهر الزهد والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ليكسب بذلك قلوب العامة وتعاطفهم ومحبتهم واعتقاد الولاية فيه.

- أن ابن تومرت كان يستجيز الكذب ليخدع بذلك السذج والبلهاء، كما خدع عبدالمؤمن، بحديث وضعه ابن تومرت من عنده.

- أن ابن تومرت كذب على الناس وادعى أنه المهدي المنتظر وحتى يحقق لهم ذلك وضع لهم حديثاً زعم أن النبي أخبر أن المهدي يخرج من المغرب الأقصى.

- ما بني على باطل فهو باطل والحق لا ينتصر بالكذب إنما الباطل قد ينتصر وينتشر بالكذب فهذه الدعوة التي ما انتشرت إلا بالكذب والدجل على الناس لا شك أنها دعوة باطل.

- أن هذه سيما مذهب المتكلمين عامة ومذهب الأشاعرة خاصة، فدينهم لم يقم إلا على الكذب والتزوير ووضع الأحاديث والأخبار على الصحابة والتابعين وأئمة أهل السنة المرضيين، وكما قلنا سابقا أن الحق لا ينتصر بالكذب وما بني على باطل فهو باطل، فهذا دليل قاطع على أن مذهب المتكلمين عامة والاشاعرة خاصة مذهب باطل.

محنة الإمام عبدالغني المقدسي سنة 595هـ

وهي الفتنة التاسعة عشر التي أوقعها المتكلمون

قال الذهبي في السير: "كان الحافظ يقرأ الحديث بدمشق، ويجتمع عليه الخلق، فوقع الحسد، فشرعوا عملوا لهم وقتا لقراءة الحديث، وجمعوا الناس، فكان هذا ينام وهذا بلا قلب، فما اشتفوا، فأمروا الناصح ابن الحنبلي بأن يعظ تحت النسر يوم الجمعة وقت جلوس الحافظ. فأول ذلك: أن الناصح والحافظ أرادا أن يختلفا الوقت، فاتفقا أن الناصح يجلس بعد الصلاة، وأن يجلس الحافظ العصر، فدسوا إلى الناصح رجلا ناقص العقل من بني عساكر، فقال للناصح في المجلس ما معناه: إنك تقول الكذب على المنبر. فضرب، وهرب، فتمت مكيدتهم، ومشوا إلى الوالي، وقالوا: هؤلاء الحنابلة قصدهم الفتنة، واعتقادهم يخالف اعتقادنا...، ونحو هذا. ثم جمعوا كبراءهم، ومضوا إلى القلعة إلى الوالي، وقالوا: نشتهي أن تحضر عبد الغني، فانحدر إلى المدينة خالي الموفق، وأخي الشمس البخاري، وجماعة، وقالوا: نحن نناظرهم. وقالوا للحافظ: لا تجئ، فإنك حد، نحن نكفيك. فاتفق أنهم أخذوا الحافظ وحده، ولم يدر أصحابنا، فناظروه، واحتد، وكانوا قد كتبوا شيئا من الاعتقاد، وكتبوا خطوطهم فيه، وقالوا له: اكتب خطك. فأبى، فقالوا للوالي: الفقهاء كلهم قد اتفقوا على شيء وهو يخالفهم. واستأذنوه في رفع منبره، فبعث الأسرى، فرفعوا ما في جامع دمشق من منبر وخزانة ودرابزين، وقالوا: نريد أن لا تجعل في الجامع إلا صلاة الشافعية. وكسروا منبر الحافظ، ومنعونا من الصلاة، ففاتتنا صلاة الظهر. ثم إن الناصح جمع البنوية، وغيرهم، وقالوا: إن لم يخلونا نصلي باختيارهم، صلينا بغير اختيارهم. فبلغ ذلك القاضي، وكان صاحب الفتنة، فأذن لهم، وحمى الحنفية مقصورتهم بأجناد، ثم إن الحافظ ضاق صدره ومضى إلى بعلبك، فأقام بها مدة، فقال له أهلها: إن اشتهيت جئنا معك إلى دمشق نؤذي من آذاك، فقال: لا. وتوجه إلى مصر، فبقي بنابلس مدة يقرأ الحديث، وكنت أنا بمصر، فجاء شاب من دمشق بفتاو إلى صاحب مصر الملك العزيز ومعه كتب أن الحنابلة يقولون كذا وكذا مما يشنعون به عليهم. فقال -وكان يتصيد-: إذا رجعنا أخرجنا من بلادنا من يقول بهذه المقالة. فاتفق أنه عدا به الفرس، فشب به، فسقط، فخسف صدره، كذلك حدثني يوسف بن الطفيل شيخنا وهو الذي غسله، فأقيم ابنه صبي، فجاء الأفضل من صرخد، وأخذ مصر، وعسكر، وكر إلى دمشق، فلقي الحافظ عبد الغني في الطريق، فأكرمه إكراما كثيرا، ونفذ يوصي به بمصر، فتلقي الحافظ بالإكرام، وأقام بها يسمع الحديث بمواضع، وكان بها كثير من المخالفين، وحصر الأفضل دمشق حصرا شديدا، ثم رجع إلى مصر، فسافر العادل عمه خلفه، فتملك مصر، وأقام، وكثر المخالفون على الحافظ، فاستدعي، وأكرمه العادل، ثم سافر العادل إلى دمشق، وبقي الحافظ بمصر، وهم ينالون منه، حتى عزم الملك الكامل على إخراجه، واعتقل في دار أسبوعا، فسمعت أبا موسى يقول: سمعت أبي يقول: ما وجدت راحة في مصر مثل تلك الليالي. قال: وكانت امرأة في دار إلى جانب تلك الدار، فسمعتها تبكي، وتقول: بالسر الذي أودعته قلب موسى حتى قوي على حمل كلامك. قال: فدعوت به، فخلصت تلك الليلة. سمعت أحمد بن محمد بن عبد الغني، حدثني الشجاع بن أبي زكري الأمير، قال: قال لي الملك الكامل يوما: ها هنا فقيه قالوا إنه كافر. قلت: لا أعرفه. قال: بلى، هو محدث. قلت: لعله الحافظ عبد الغني؟ قال: هذا هو. فقلت: أيها الملك، العلماء أحدهم يطلب الآخرة، وآخر يطلب الدنيا، وأنت هنا باب الدنيا، فهذا الرجل جاء إليك أو تشفع يطلب شيئا؟ قال: لا. فقلت: والله هؤلاء يحسدونه، فهل في هذه البلاد أرفع منك؟ قال: لا. فقلت: هذا الرجل أرفع العلماء كما أنت أرفع الناس. فقال: جزاك الله خيرا كما عرفتني، ثم بعثت رقعة إليه أوصيه به، فطلبني، فجئت، وإذا عنده شيخ الشيوخ ابن حمويه، وعز الدين الزنجاري، فقال لي السلطان: نحن في أمر الحافظ. فقال: أيها الملك، القوم يحسدونه، وهذا الشيخ بيننا - يعني: شيخ الشيوخ - وحلفته هل سمعت من الحافظ كلاما يخرج عن الإسلام؟ فقال: لا والله، وما سمعت عنه إلا كل جميل، وما رأيته. وتكلم ابن الزنجاري، فمدح الحافظ كثيرا وتلامذته، وقال: أنا أعرفهم، ما رأيت مثلهم. فقلت: وأنا أقول شيئا آخر: لا يصل إليه مكروه حتى يقتل من الأكراد ثلاثة آلاف. قال: فقال: لا يؤذى الحافظ. فقلت: اكتب خطك بذلك، فكتب. وسمعت بعض أصحابنا يقول: إن الحافظ أمر أن يكتب اعتقاده، فكتب: أقول كذا؛ لقول الله كذا، وأقول كذا؛ لقول الله كذا ولقول النبي صلى الله عليه وسلم كذا، حتى فرغ من المسائل التي يخالفون فيها. فلما رآها الكامل، قال: أيش أقول في هذا يقول بقول الله وقول رسوله -صلى الله عليه وسلم-؟! قلت: وذكر أبو المظفر الواعظ في (مرآة الزمان)، قال: كان الحافظ عبد الغني يقرأ الحديث بعد الجمعة، قال: فاجتمع القاضي محيي الدين، والخطيب ضياء الدين، وجماعة، فصعدوا إلى القلعة، وقالوا لواليها: هذا قد أضل الناس، ويقول بالتشبيه. فعقدوا له مجلسا، فناظرهم، فأخذوا عليه مواضع، منها: قوله: لا أنزهه تنزيها ينفي حقيقة النزول، ومنها: كان الله ولا مكان، وليس هو اليوم على ما كان، ومنها: مسألة الحرف والصوت، فقالوا: إذا لم يكن على ما كان، فقد أثبت له المكان، وإذا لم تنزهه عن حقيقة النزول، فقد جوزت عليه الانتقال، وأما الحرف والصوت فلم يصح عن إمامك، وإنما قال إنه كلام الله، يعني غير مخلوق. وارتفعت الأصوات، فقال والي القلعة الصارم برغش: كل هؤلاء على ضلالة وأنت على الحق؟ قال: نعم. فأمر بكسر منبره. قال: وخرج الحافظ إلى بعلبك، ثم سافر إلى مصر.. إلى أن قال: فأفتى فقهاء مصر بإباحة دمه، وقالوا: يفسد عقائد الناس، ويذكر التجسيم. فكتب الوزير بنفيه إلى المغرب، فمات الحافظ قبل وصول الكتاب" اهـ

وقال ابن كثير: "وفي هذه السنة وقعت فتنة بدمشق بسبب الحافظ عبد الغني المقدسي ; وذلك أنه كان يتكلم في مقصورة الحنابلة بالجامع الأموي، فذكر يوما شيئا من العقائد فاجتمع القاضي محيي الدين بن الزكي وضياء الدين الخطيب الدولعي بالسلطان المعظم والأمير صارم الدين بزغش، فعقد له مجلس فيما يتعلق بمسألة الاستواء على العرش والنزول والحرف والصوت، فوافق النجم الحنبلي بقية الفقهاء واستمر الحافظ على ما يقوله لم يرجع عنه واجتمع بقية الفقهاء عليه وألزموه بإلزامات شنيعة لم يلتزمها، حتى قال له الأمير بزغش: كل هؤلاء على الضلالة وأنت وحدك على الحق؟! قال: نعم. فغضب الأمير عند ذلك، وأمر بنفيه من البلد، فاستنظره ثلاثة أيام، فأنظره، وأرسل بزغش الأسارى من القلعة، فكسروا منبر الحافظ، وتعطلت صلاة الظهر يومئذ في محراب الحنابلة، وأخرجت الخزائن والصناديق التي كانت هناك، وجرت خبطة شديدة، نعوذ بالله من الفتن، ما ظهر منها وما بطن، وكان عقد المجلس يوم الاثنين الرابع والعشرين من ذي الحجة، فارتحل الحافظ عبد الغني إلى بعلبك، ثم سار إلى الديار المصرية، فآواه المحدثون، فحنوا عليه وأكرموه" اهـ

قلت: وانظر إلى قول الأمير بزغش عندما قال: "كل هؤلاء على الضلالة وأنت وحدك على الحق" فهذه حجة أهل الباطل منذ كانوا، لا ينظرون في حجة ولا دليل، فإما أن يكونوا مع دين ملوكهم، أو يكونوا مع جمهور الناس، ويعتقدون الحق معهم، وكان من أسخف الحجج التي احتج بها مشركوا قريش على النبي صلى الله عليه وسلم أنه لم يأتي أحد بمثل ما جاء به، وأنه سفه أحلامهم، وخطئ أباءهم، فكان هو على الحق، مع أنه كان وحده، وكانوا هم على الباطل، مع أنهم أكثر الناس، ولكن أين الذي يفقه!


إنكار الأشاعرة لنبوة النبي صلى الله عليه وسلم بعد موته!

كان قدماء الأشاعرة لا يستحون من إبراز بعض مذاهبهم الكفرية ظنا منهم أنها لا تقدح في المذهب فمن ذلك قولهم بأن النبي لم يعد نبيا بعد موته وسبب قولهم ذلك ظنهم أن العرض - والعرض كل ما هو مخلوق - لا يبقى زمانين! وهذه القاعدة لا دليل عليها من كتاب الله ولا من سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم وإنما هي ظنون جرهم إلى القول بها اللجاجة أثناء مناظرتهم للمعتزلة وهذه ثمرة مخالفت الكتاب والسنة عياذا بالله من هذا الضلال

قال أبو محمد ابن حزم الظاهري وهو من كبار أئمة الجهمية في كتابه الفصل في الملل والأهواء والنحل: "حديث فرقة مبتدعة تزعم أن محمد بن عبد الله بن عبد المطلب ﷺ ليس هو الآن رسول الله ﷺ ولكنه كان رسول الله ﷺ وهذا قول ذهب إليه الأشعرية وأخبرني سليمان بن خلف الباجي وهو من مقدميهم اليوم أن محمد بن الحسن بن فورك الأصبهاني على هذه المسئلة قتله بالسم محمود ابن سبكتكين صاحب ما دون وراء النهر من خراسان رحمه الله وهذه مقالة خبيثة مخالفة لله تعالى ولرسوله ﷺ ولما أجمع عليه جميع أهل الإسلام مذ كان الإسلام إلى يوم القيامة وإنما حملهم على هذا قولهم الفاسد أن الروح عرض والعرض يفنى أبداً ويحدث ولا يبقى وقتين فروح النبي ﷺ عندهم قد فنيت وبطلت ولا روح له الآن عند الله تعالى وأما جسده ففي قبره موات فبطلت نبوته بذلك ورسالته ونعوذ بالله من هذا القول فإنه كفر صراح لا ترداد فيه ويكفي من بطلان هذا القول الفاحش الفظيع أنه مخالف لما أمر الله عز وجل به ورسوله ﷺ واتفق عليه جميع أهل الإسلام من كل فرقة وكل نحلة من الأذان في الصوامع كل يوم خمس مرات في كل قرية من شرق الأرض إلى غربها بأعلى أصواتهم قد قرنه الله تعالى بذكره أشهد أن لا إله إلا الله أشهد أن محمداً رسول الله فعلى قول هؤلاء الموكلين إلى أنفسهم يكون الآذان كذباً ويكون من أمر به كاذباً وإنما كان يجب أن يكون الأذان على قولهم أشهد أن محمداً كان رسول الله وإلا فمن أخبر عن شيء كان وبطل أنه كائن الآن فهو كاذب فالأذان كذب على قولهم وهذا كفر مجرد" اهـ

وقال ابن خلدون أثناء حديثه عن الباقلاني على سبيل المدح والإطراء! في مقدمته: "وكثر أتباع الشّيخ أبي الحسن الأشعريّ واقتفى طريقته من بعده تلميذه كابن مجاهد وغيره. وأخذ عنهم القاضي أبو بكر الباقلانيّ فتصدّر للإمامة في طريقتهم وهذّبها ووضع المقدّمات العقليّة الّتي تتوقّف عليها الأدلّة والأنظار وذلك مثل إثبات الجوهر الفرد والخلاء. وأنّ العرض لا يقوم بالعرض وأنّه لا يبقى زمانين. وأمثال ذلك ممّا تتوقّف عليه أدلّتهم" اهـ

وقال ابن قيّم الجوزية في كتابه الروح: "وَأما قَول من قَالَ مستقرها الْعَدَم الْمَحْض فَهَذَا قَول من قَالَ إِنَّهَا عرض من أَعْرَاض الْبدن وَهُوَ الْحَيَاة وَهَذَا قَول ابْن الباقلانى وَمن تبعه وَكَذَلِكَ قَالَ أَبُو الْهُذيْل العلاف النَّفس عرض من الْأَعْرَاض وَلم يُعينهُ بِأَنَّهُ الْحَيَاة كَمَا عينه ابْن الباقلانى ثمَّ قَالَ هِيَ عرض كَسَائِر أَعْرَاض الْجِسْم وَهَؤُلَاء عِنْدهم أَن الْجِسْم إِذا مَاتَ عدمت روحه كَمَا تقدم وَسَائِر أعراضه الْمَشْرُوطَة بِالْحَيَاةِ وَمن يَقُول مِنْهُم أَن الْعرض لَا يبْقى زمانين كَمَا يَقُوله أَكثر الأشعرية فَمن قَوْلهم إِن روح الْإِنْسَان الْآن هِيَ غير روحه قبل وَهُوَ لَا يَنْفَكّ يحدث لَهُ روح ثمَّ تغير ثمَّ روح ثمَّ تغير هَكَذَا أبدا فيبدل لَهُ ألف روح فَأكْثر فِي مِقْدَار سَاعَة من الزَّمَان فَمَا دونهَا فَإِذا مَاتَ فَلَا روح تصعد إِلَى السَّمَاء وتعود إِلَى الْقَبْر وتقبضها الْمَلَائِكَة ويستفتحون لَهَا أَبْوَاب السَّمَوَات وَلَا تنعم وَلَا تعذب وَإِنَّمَا ينعم ويعذب الْجَسَد إِذا شَاءَ الله تنعيمه أَو تعذيبه رد إِلَيْهِ الْحَيَاة فِي وَقت يُرِيد نعيمه أَو عَذَابه وَإِلَّا فَلَا أَرْوَاح هُنَاكَ قَائِمَة بِنَفسِهَا الْبَتَّةَ وَقَالَ بعض أَرْبَاب هَذَا القَوْل ترد الْحَيَاة إِلَى عجب الذَّنب فَهُوَ الَّذِي يعذب وينعم وَحسب وَهَذَا قَول يردهُ الْكتاب وَالسّنة وَإِجْمَاع الصَّحَابَة وأدلة الْعُقُول والفطن والفطرة وَهُوَ قَول من لم يعرف روحه فضلا عَن روح غَيره وَقد خَاطب الله سُبْحَانَهُ النَّفس بِالرُّجُوعِ وَالدُّخُول وَالْخُرُوج ودلت النُّصُوص الصَّحِيحَة للصريحة على أَنَّهَا تصعد وتنزل وتقبض وَتمسك وَترسل وتستفتح لَهَا أَبْوَاب السَّمَاء وتسجد وتتكلم وَأَنَّهَا تخرج تسيل كَمَا تسيل القطرة وتكفن وتحنط فِي أكفان الْجنَّة وَالنَّار وَأَن ملك الْمَوْت يَأْخُذهَا بِيَدِهِ ثمَّ تتناولها الْمَلَائِكَة من يَده ويشم لَهَا كأطيب نفحة مسك أَو أنتن جيفة وتشيع من سَمَاء إِلَى سَمَاء ثمَّ تُعَاد إِلَى الأَرْض مَعَ الْمَلَائِكَة وَأَنَّهَا إِذا خرجت تبعها الْبَصَر بِحَيْثُ يَرَاهَا وَهِي خَارِجَة وَدلّ الْقُرْآن على أَنَّهَا تنْتَقل من مَكَان إِلَى مَكَان حَتَّى تبلغ الْحُلْقُوم فِي حركتها وَجَمِيع مَا ذكرنَا من جمع الْأَدِلَّة الدَّالَّة على تلاقى الْأَرْوَاح وتعارفها وَأَنَّهَا أجناد مجندة إِلَى غير ذَلِك تبطل هَذَا القَوْل وَقد شَاهد النَّبِي الْأَرْوَاح لَيْلَة الْإِسْرَاء عَن يَمِين آدم وشماله وَأخْبر النَّبِي إِن نسمَة الْمُؤمن طَائِر يعلق فِي شجر الْجنَّة وَأَن أَرْوَاح الشُّهَدَاء فِي حواصل طير خضر وَأخْبر تَعَالَى عَن أَرْوَاح آل فِرْعَوْن أَنَّهَا تعرض على النَّار غدوا وعشيا وَلما أورد ذَلِك على ابْن الباقلانى لج فِي الْجَواب وَقَالَ يخرج على هَذَا أحد وَجْهَيْن إِمَّا بِأَن يوضع عرض من الْحَيَاة فِي أول جُزْء من أَجزَاء الْجِسْم وَإِمَّا أَن يخلق لتِلْك الْحَيَاة وَالنَّعِيم وَالْعَذَاب جَسَد آخر وَهَذَا قَول فِي غَايَة الْفساد من وُجُوه كَثِيرَة أَي قَول أفسد من قَول من يَجْعَل روح الْإِنْسَان عرضا من الْأَعْرَاض تتبدل كل سَاعَة الوفا من المرات فَإِذا فَارقه هَذَا الْعرض لم يكن بعد الْمُفَارقَة روح تنعم وَلَا تعذب وَلَا تصعد وَلَا تنزل وَلَا تمسك وَلَا ترسل فَهَذَا قَولمُخَالف لِلْعَقْلِ ونصوص الْكتاب وَالسّنة والفطرة وَهُوَ قَول من لم يعرف نَفسه .. وَهُوَ قَول لم يقل بِهِ أحد من سلف الْأمة وَلَا من الصَّحَابَة وَالتَّابِعِينَ وَلَا أَئِمَّة الْإِسْلَام" اهـ

وقال ابن طاهر: "وسمعت خادمه أحمد بن أميرجه يقول : حضرت مع الشيخ للسلام على الوزير نظام الملك ، وكان أصحابنا كلفوه الخروج إليه ، وذلك بعد المحنة ورجوعه إلى وطنه من بلخ - يعني أنه كان قد غرب - قال : فلما دخل عليه أكرمه وبجله ، وكان هناك أئمة من الفريقين ، فاتفقوا على أن يسألوه بين يدي الوزير ، فقال العلوي الدبوسي : يأذن الشيخ الإمام أن أسأل ؟ قال : سل . قال : لم تلعن أبا الحسن الأشعري ؟ فسكت الشيخ ، وأطرق الوزير ، فلما كان بعد ساعة ; قال الوزير : أجبه . فقال : لا أعرف أبا الحسن ، وإنما ألعن من لم يعتقد أن الله في السماء ، وأن القرآن في المصحف ، ويقول : إن النبي - صلى الله عليه وسلم - اليوم ليس بنبي . ثم قام وانصرف فلم يمكن أحدا أن يتكلم من هيبته ، فقال الوزير للسائل : هذا أردتم ! أن نسمع ما كان يذكره بهراة بأذاننا ، وما عسى أن أفعل به ؟ ثم بعث إليه بصلة وخلع ، فلم يقبلها ، وسافر من فوره إلى هراة" انتهى

كل هذه الروايات تفيد بأن القول بأن العرض لا يبقى زمانين وأن النبي لم يعد نبيا بعد موته هو معتقد أصيل في المذهب الأشعري.

هذا ما كان يظهره متقدموهم، أما متأخروهم، فقد انقسموا حول هذه العقيدة إلى قسمين:

قسم لزم الصمت، فلم يبدي موافقة أو اعتراضا، وإن كان بعضهم أخذ يثني على هذه القاعدة الظنيّة الكاذبة، وهي قولهم: العرض لا يبقى زمانين، دون الإشارة إلى لوازمها من إنكار نبوة النبي صلى الله عليه وسلم بعد موته.

وأظن أن السبب في ذلك، أنه لما ظهر قبح هذه المقالة وشناعتها، ولأن قلوب العامة من الناس تنفر منها، سكتت هذه عن المجاهرة بها وأهملوها مطلقاً، ولو كانوا ينكرونها لأنكروها في كتبهم. 

ويدلك هذا على أن ابن خلدون وهو من متأخريهم ذكر أن من مناقب الباقلاني هو تقريره بأن العرض لا يبقى زمانين فجعلها منقبة من مناقبة التي يشكر عليها ويثنى عليه بها!

وانظر أيضا كيف أن ابن القيم ذكر ذلك عن الباقلاني ولم يتبرأ أحد من الأشاعرة في زمان ابن القيم من هذا القول أو استنكره بل سكتوا عنه فلم يردوه كل هذا يثبت أن القوم باقون على منهج أسلافهم في إنكار نبوة النبي محمد بعد موته وأنه اليوم ليس نبياً وإنما سكتوا عن التسويق لهذا الكفر مخافة أن ينفر الناس عنهم 

وقسم استنكرها، وأعلن البراءة منها، وربما كان ذلك بسبب اختلاط الأشعرية بالصوفية، والصوفية عندهم غلو في النبي وآل بيته خاصة، وإن كان غلوا زائفا، أي: مجرد مشاعر وأحاسيس لا يتبعها اقتداء أو اهتداء، بل هو أشبه بالتظاهر والإدعاء، فلم يكونوا ليقبلوا هذا القول، زد على ذلك أن الأشاعرة المتصوفة كونهم أجازوا دعاء النبي من دون الله تعالى، كان يجب عليهم أن يلغوا هذا المعتقد، إذ لا يعقل أنهم سوف يتوجهون بالدعاء أو التوسل والاستشفاع برجل لم يعد نبيا، بل أصبح رجلا عاديا شأنه شأن أي رجل أخر، وقس على ذلك حال الأولياء والمشايخ، فيجب إثبات الولاية لهم بعد موتهم، وإلّا فكيف سوف يأمرون الناس بإشراكهم مع الله! لذلك تم إقصاء هذه العقيدة عند الصوفية لحاجتهم لإثبات نبوّة النبي بعد موته، وإثبات الولاية لمشايخهم بعد موتهم، ليقرروا للناس الشرك بهم.

ولو سألتهم ما دليلكم على أن العرض لا يبقى زمانين لم تجد عند القوم دليلا فليس هناك نص في كتاب الله ولا سنة رسول الله ولا حتى بالأدلة العلميّة، على أن العرض لا يبقى زمانين وهم لا يعلمون الغيب، وإنما دفعهم لهذا القول وهذا الاعتقاد الجدل والمماراة وحب الظهور والغلبة والانتصار للنفس فابتدعوا هذه القاعدة الكاذبة وجعلوها دينا يدينون به للرد على خصومهم المعتزلة، فسبحان الذي أعمى بصائرهم!


شبه الأشاعرة والمعتزلة في إجازة الشرك بالله تعالى

ويستدل الاشاعرة والمعتزلة على جواز دعاء النبي صلى الله عليه وسلم والولي من دون الله تعالى، والاستغاثة به، وبالأولياء، بالأحاديث الواردة في التوسل والتوسط والاستشفاع المباح، أو بالأحاديث التي وردت في التوسل البدعي، وهذا من مكرهم وتحايلهم وتلبيسهم.

وأنا إن شاء الله تعالى، أوردها هنا، وأرد عليها حديثاً حديثاً.

الحديث الأول

عن عمر رضي الله عنه: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّه صلى الله عليه وسلم يقول: يَأْتِي علَيْكُمْ أُوَيْسُ بْنُ عَامِرٍ مَعَ أَمْدَادِ أَهْلِ الْيَمَنِ، مِنْ مُرَادٍ، ثُمَّ مِنْ قَرَنٍ، كَانَ بِهِ بَرَصٌ فَبَرَأَ مِنْهُ إِلَّا مَوْضِعَ دِرْهَمٍ، لَهُ وَالِدَةٌ هُو بِها بَرٌّ، لَوْ أَقْسَمَ عَلَى اللَّه لأَبَرَّهُ، فَإِنِ اسْتَطَعْتَ أَنْ يَسْتَغْفِرَ لَكَ فَافْعَلْ، فَاسْتَغْفِرْ لي"، فَاسْتَغْفَرَ لَهُ.

والجواب: ليس في الحديث أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر عمر بأن يسأل المغفرة من أويس القرني، وإنما أمره أن يطلب منه أن يسأل الله تعالى أن يغفر له، ثم عمر سأل من أويس أن يسأل الله له المغفرة، ولم يسأل المغفرة من أويس، فشتان بين من يسأل ممن يعتقد فيهم الصلاح أن يدعوا الله له، ومن من يدعوهم من دون الله تعالى! فليس في هذا الخبر حجة للصوفية.

كما أن في هذا الحديث دلالة على أنه لا يجوز دعاء الغائب، فالنبي صلى الله عليه وسلم أمره أن يطلب من أويس ذلك إذا قدم أويس من اليمن، فلو كان دعاء الغائب جائزاً لأمره النبي أن يسأل أويساً في وقته، دون الحاجة لأن ينتظر أويساً حتى يقدم من اليمن!

الحديث الثاني

عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ ، أَنَّ عُمَرَ بْنَ الخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ ، كَانَ إِذَا قَحَطُوا اسْتَسْقَى بِالعَبَّاسِ بْنِ عَبْدِ المُطَّلِبِ ، فَقَالَ : اللَّهُمَّ إِنَّا كُنَّا نَتَوَسَّلُ إِلَيْكَ بِنَبِيِّنَا فَتَسْقِينَا ، وَإِنَّا نَتَوَسَّلُ إِلَيْكَ بِعَمِّ نَبِيِّنَا فَاسْقِنَا ، قَالَ : فَيُسْقَوْنَ.

والجواب: وهذا الحديث ليس فيه جواز دعاء الأنبياء والأولياء من دون الله تعالى، فالفاروق هنا نجده يتوجه بالدعاء إلى الله تعالى، فيقول: "اللهم" إلى أخر دعائه، فالفاروق دعى الله وحده، ثم توسل أي: توجه بالعباس بن عبدالمطلب، لقرابته من النبي، ولصلاحه، فهنا الفارقو لم يدعو العباس بن عبدالمطلب، وسأله أن يسقيهم، بل سأل السقيا من الله تعالى، وتوسل إلى الله بالعباس ليجيب دعائهم.

وفي حَدِيث أبي صَالح: "فَلَمَّا صعد عمر وَمَعَهُ الْعَبَّاس الْمِنْبَر، قَالَ عمر، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ: اللَّهُمَّ إِنَّا توجهنا إِلَيْك بعم نبيك وصنو أَبِيه فاسقنا الْغَيْث وَلَا تجعلنا من القانطين، ثمَّ قَالَ: قل يَا أَبَا الْفضل، فَقَالَ الْعَبَّاس: اللَّهُمَّ لم ينزل بلَاء إلاّ بذنب، وَلم يكْشف إلاّ بتوبة وَقد توجه بِي الْقَوْم إِلَيْك لمكاني من نبيك، وَهَذِه أَيْدِينَا إِلَيْك بِالذنُوبِ، ونواصينا بِالتَّوْبَةِ، فاسقنا الْغَيْث" اهـ

فيتضح من حديث أبي صالح، أن أمير المؤمنين عمر بن الخطاب، إنما أراد بتوسله بالعباس أن يدعو لهم، لذلك قال للعباس: "قل يا أبا الفضل" أي: أدع لنا. فدعى لهم العباس رضي الله عنه، فسقاهم الله تعالى.

ويتضح من هذا الخبر أيضاً، أن الفاروق عمر لم يوجه الدعاء بالنبي ولا استغاث به، ولو كان هذا مباحاً أو مندوباً اليه لما احتاج إلى العباس عم النبي صلى الله عليه وسلم وتوسل بدعائه إلى الله تعالى!

الحديث الثالث

وعن ربيعة بن كعب الأسلمي خادم رسول الله صلى الله عليه وسلم ومن أهل الصُّفة، قال: كنت أبيت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فآتيه بوضوئه وحاجته، فقال: سلني فقلت: أسألك مرافقتك في الجنة، فقال: أو غير ذلك؟ قلت: هو ذاك، قال: فأعني على نفسك بكثرة السجود، رواه مسلم

والجواب: أن ربيعة هنا يدرك أن النبي صلى الله عليه وسلم لا يملك شيئاً، ولا يقدر على نفعه أو مضرته، كما قال تعالى في سورة الجن: ( قُلْ إِنِّي لَا أَمْلِكُ لَكُمْ ضَرًّا وَلَا رَشَدًا قُلْ إِنِّي لَنْ يُجِيرَنِي مِنَ اللَّهِ أَحَدٌ وَلَنْ أَجِدَ مِنْ دُونِهِ مُلْتَحَدًا) وقول النبي في الحديث الصحيح: "يا فاطمة بنت محمد سليني من مالي ما شئت لا أغني عنكي من الله شيئا" أي: أنني لا استطيع أن أعينكي إلا في ما يطيقه المخلوقون عادة من إعانة بعضهم بعضا من أمور الدنيا، فما لا يستطيعه أحاد الناس فإن الأنبياء فضلا عن الأولياء لا يقدرون عليه ولا يستطيعونه.

ويعلم الصحابي أن النبي لا يملك له إلا الدعاء، ونجد هذا البرهان ما ثلا أمامنا في خبر توسل عمر بالعباس رضي الله عنهما، كما قدمنا، ولذلك سأله مرافقته في الجنّة والنبي حي يرزق، يدرك بذلك أن النبي سوف يقوم بالدعاء له ويرجو الله له أن يجعله رفيقاً له في الجنّة، فنجد النبي يقول له "أعني على نفسك بكثرة السجود" أي: أنني سوف أدعو لك، ولكن يجب أن تعينني أنت أيضاً على ذلك بكثرة الصلاة حتى يقبل الله دعائي لك، وانظر إلى ضعف النبي صلى الله عليه وسلم أمام الله تعالى، فهو يعلم أن ربيعة بن كعب إذا لم يتخ الأسباب التي تعينه على الوصول إلى غايته، فإن دعاءه، لن ينفع ربيعة بشيء، فأين ما يقوله الصوفية من أن النبي صلى الله عليه وسلم، لا يرد له طلب، وهاهو هنا، يشير إلى ربيعة بأنه إن لم يقم بالأسباب التي تجعل الله يقبل دعائه له، وإلا فإن فرصته في تحقيق أمنيته ضعيفة جداً، وكيف يزعم هؤلاء الصوفية من أن الله تعالى لا يرد للنبي طلب، لما له من مكانة عظيمة عند الله تعالى، والله يقول في محكم التنزيل: (إِنَّكَ لَا تَهْدِى مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَٰكِنَّ ٱللَّهَ يَهْدِى مَن يَشَآءُ ۚ وَهُوَ أَعْلَمُ بِٱلْمُهْتَدِينَ)ويقول تعالى: (لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ أَوْ يُعَذِّبَهُمْ فَإِنَّهُمْ ظَالِمُونَ) ولكن هؤلاء المتصوفة، همهم نقضالإسلام، بتظاهرهم بتعظيم النبي والصالحين، والنبي وصالحي عباد الله برءاء منهم ومن شركهم، فيدسون لك الشرك الأكبر تحت ستار الإسلام، وتعظيم النبي والصالحين، ليخرجوا الناس من الإسلام كما أدخلهم النبي والصالحين فيه من قبل، (هُمُ الْعَدُوُّ فَاحْذَرْهُمْ ۚ قَاتَلَهُمُ اللَّهُ أَنَّىٰ يُؤْفَكُونَ)

الحديث الرابع

عَنْ عُثْمَانَ بْنِ حُنَيْفٍ ، أَنَّ رَجُلًا ضَرِيرَ الْبَصَرِ أَتَى النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، فَقَالَ : ادْعُ اللَّهَ أَنْ يُعَافِيَنِي ، فَقَالَ : إِنْ شِئْتَ أَخَّرْتَ ذَاكَ ، فَهُوَ أَعْظَمُ لِأَجْرِكَ ، وَإِنْ شِئْتَ دَعَوْتُ اللَّهَ ؟ ، فَقَالَ : ادْعُهُ ، فَأَمَرَهُ أَنْ يَتَوَضَّأَ وَيُصَلِّيَ رَكْعَتَيْنِ ، وَيَدْعُوَ بِهَذَا الدُّعَاءِ : اللَّهُمَّ إِنِّي أَسْأَلُكَ وَأَتَوَجَّهُ إِلَيْكَ بِنَبِيِّكَ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَبِيِّ الرَّحْمَةِ ، يَا مُحَمَّدُ ، إِنِّي تَوَجَّهْتُ بِكَ إِلَى رَبِّي فِي حَاجَتِي هَذِهِ فَتُقْضَى ، اللَّهُمَّ فَشَفِّعْهُ فِيَّ. اهـ

والجواب: أن الضرير لم يدعو النبي صلى الله عليه وسلم من دون الله تعالى، ولم يسأل من النبي أن يرد إليه بصره، بل الحديث من أوله إلى أخره ينقض ما يدعيه هؤلاء المشركون من جواز دعاء النبي والولي من دون الله تعالى، فالأعمى سأل من النبي صلى الله عليه وسلم أن يدعو الله له، ولم يدعو النبي، ولم يسأله أن يرد عليه بصره، ويتعلل بما يتعلل به المشركون من أنهم إنما يريدون بدعائهم النبي من دون الله تعالى، أن يدعو النبي لهم الله، فتلك مجرد حيلة ليدفعوا بها عن أنفسهم الحكم بالكفر، ولكي لا يفتضح أمرهم وكفرهم، وليس هذا بنافعهم شيئاً، ثم النبي صلى اله عليه وسلم أرشد الأعمى أن يدعو الله تعالى، ولم يقل أدعني من دون الله، واسألني أن أرد عليك بصرك! بل قال أدع الله، وتوجه بي عليه، واسأله أن يقبل شفاعتي عندما أتوجه إليه من أجلك ليقبل شفاعتي فيك، فانظروا كيف أن النبي يدرك ويخبر الأعمى أن النبي ربما يشف للأعمى ولكن الله تعالى لا يقبل شفاعته للأعمى، فأرشد الأعمى أن يسأل الله تعالى أن يقبل شفاعة نبيه فيه! وهؤلاء الحمقى المشركون، يظنون أن النبي هو بنفسه قادر على النفع والضر، لما له من مكانة ووجاهة عند الله تعالى!

الحديث الخامس

عن عثمان بن حنيف، أن رجلا كان يختلف إلى عثمان بن عفان في حاجة له فكان عثمان لا يلتفت إليه ولا ينظر في حاجته، فلقي عثمان بن حنيف فشكى إليه ذلك فقال : ائت الميضأة فتوضأ ثم صلّ ركعتين ثم قل :اللهم إني أسألك وأتوجه إليك بنبينا محمد نبي الرحمة ، يا محمد إني أتوجه بك إلى ربي عز وجل لتقضى لي حاجتي وتذكر حاجتك ورح حتى أروح معك فانطلق الرجل فصنع ما قال عثمان له ثم أتى عثمان بن عفان ، فجاء البواب فأخذه بيده فأدخله على عثمان بن عفان فأجلسه على الطنفسة فقال: ما حاجتك ، فذكر له حاجته فقضاها له ، ثم قال له: ما ذكرت حاجتك حتى كانت هذه الساعة، وقال له: ما كان لك حاجة فأتنا ، ثم إن الرجل خرج من عنده فلقي عثمان بن حنيف فقال له: جزاك الله خيرا ما كان ينظر في حاجتي ولا يلتفت حتى كلّمته فيّ ، فقال عثمان بن حنيف : والله ما كلّمته ولكن شهدت رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد أتاه ضرير فشكا إليه ذهاب بصره فقال له النبيّ صلى الله عليه وسلم : أو تصبر فقال: يا رسول الله إنه ليس لي قائد وقد شق علي، فقال له النبي : ائت الميضئة فتوضأ ثم صلّ ركعتين ثم ادع بهذه الدعوات ، قال عثمان بن حنيف : فوالله ما تفرقنا وطال بنا الحديث حتى دخل علينا الرجل كأنه لم يكن به ضر قط اهـ

والجواب: أن هذا الخبر لا يختلف عن سابقه، وقصار ما يدل عليه أنه كما أنه يجوز لنا أن نتوجه بالنبي في دعائنا لله تعالى وهو حي، فيجوز لنا أن نتوجه به في دعائنا لله تعالى وهو ميّت، لكن لا يوجد فيه ما يدل على إجازة دعاء النبي من دون الله تعالى بأي صورة من الصور، وبأي شكل من الأشكال.

مع كون هذا الحديث بهذه الزيادة - وهي خبر الرجل الذي أراد الدخول على عثمان بن عفان رضي الله عنه - ضعيف فقد رواه أبو نعيم في الحلية، والطبراني في المعجم الكبير، وفيه اسنادها شبيب بن سعيد، ضعيف، وقد صحح المحدثون روايت شبيب إذا كان يروي عن يونس بن زيد ويروي عنه ابنه أحمد، ولم يتوفر هذان الشرطان في هذه الرواية، فالراوي عن شبيب في هذا الخبر يدعى ابن وهب، وقد تكلم في روايته عنه، والذي روى عنه شبيب هذا الخبر ليس يونس بن زيد بل رواه مرة عن عمير بن يزيد ومرة عن روح بن القاسم، وقد رواه الحاكم من طريق عون بن عمارة البصري عن روح بن القاسم هذا به بدون ذكر القصة المزعومة، وعون هذا وإن كان ضعيفا فروايته أولى من رواية شبيب لموافقتها لرواية المحدثين الأثبات.

فقد رواها الترمذي وابن ماجه وأحمد وابن خزيمة والحاكم والنسائي وعبد بن حميد بدون خبر عثمان بن حنيف مع الرجل الذي أراد الدخول على عثمان بن عفان رضي الله عنه.

فالخبر الذي رواه الطبراني والأصبهاني ضعيف الإسناد، بسبب شبيب هذا، كما أنه منكر المتن، من حيث أنه لم يرو هذه القصة المطولة المزعومة أحد ممن روى حديث عثمان بن حنيف من المحدثين الثقات المشهورين.

الحديث السادس

عن أبي صالح عن مالك الدار مولى عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال :" أصاب النّاس قحط في زمان عمر بن الخطاب رضي الله عنه، فجاء رجل إلى قبر النبي صلى الله عليه وآله وسلم فقال : يا نبي الله استسق الله لأمّتك. فرأى النبي صلى الله عليه وآله وسلم فقال: ائت عمر، فأقرئه السّلام، وقل له : إنّكم مُسْقَوْن، فعليك بالكَيّس، الكيّس، قال : فبكى عمر، وقال : يا ربّي ما آلو إلاّ ما عجزت عنه".

أخرجه ابن أبي شيبة في المصنّف، والبخاري في التاريخ الكبير مختصرا، والخليلي في الإرشاد.

والجواب: أننا لو سلمنا بصحة هذا الخبر، فهل رأيتم الرجل يدعو النبي ويقول يا رسول الله اسقنا يا رسول الله ارزقنا يا رسول الله اعفوا عنا يا رسول الله اغفر لنا يا رسول الله ادخلنا الجنة؟ أم قال: "يا نبي الله استسق الله لأمتك" ؟

فليس في هذا الخبر دليل على جواز دعاء النبي من دون الله تعالى، بل فيه دلالة على أنه كما أنه يجوز أن نسأل من النبي أن يدعو لنا وهو حي يجوز أن نسأل منه أن يدعو لنا بعد موته، هذا كل ما يفيده الخبر، وهو بخلاف ما يقوم به أهل البدع الذين يدعون النبي من دون الله تعالى، فشتان بين من يسأل من النبي أن يدعو الله له، وبين من يدعو النبي من دون الله تعالى.

مع أن هذا الخبر ضعيف، ولا تقوم به حجة، فقد قال النقّاد لا يسلم سنده من علة:

العلة الأولى: جهالة حال مالك الدار، وقول الخليلي في الإرشاد بأنه تابعي أثنى عليه التابعون، فيه نظر فمن الذي أثنى عليه ؟! فالخليلي توفي سنة ست وأربعين وأربعمائة، ولم يذكر من أثنى عليه! وبالتالي فمالك الدار غير معلوم العدالة والضبط وهذان شرطان أساسيان في قبول روايته.

والعلة الثانية: أن الخبر على الأرجح مرسل، ولم يصله سوى الخليلي في الإرشاد، ولكنه قال بعد ذلك: "يُقَالُ : إِنَّ أَبَا صَالِحٍ سَمَّعَ مَالِكَ الدَّارِ هَذَا الْحَدِيثَ , وَالْبَاقُونَ أَرْسَلُوهُ" ويقال صيغة تمريض فالخبر مشكوك في اتصاله والأثبت أنه مرسل، لأن الأكثرية أرسلوه.

الحديث السابع

ما روي من أن أن قدم عبدالله بن عمر بن الخطاب خدرت، فقال له رجل: أذكر أحب الناس إليك، أو أدع، بمعنى أذكر، فقال ابن عمر: محمد، وفي رواية: يا محمد، فذهب ما يجد من الخدر في قدمه. رواه البخاري في الأدب المفرد وغيره.

والجواب: أنه مع ضعيف سند هذا الحديث، إلا أن قصار ما في هذا الحديث أن الرجل إذا ذكر أحب الناس إليه، هدئت نفسه، وارتخت أعصابه، وجرى الدم في عروقه، فيذهب ما يجد من الخدر في جسمه.

ومما يدل على ذلك، أن الرجل قال: أذكر أحب الناس إليك، أو أدع أحب الناس إليك، ولم يحدد شخصا بعينه، فقد يكون أحب الناس إليه أمه، أو أباه، أو ولده، وقد لا يكون من الأولياء الصالحين في شيء، كما أن من أشار إلى عبدالله بن عمر بذلك ليس نبياً ولا حتى صحابياً، بل هو تابعي، مما يدل على أنه لم يكن مراد عبدالله بن عمر عندما قال محمد أو يا محمد الاستغاثة بالنبي صلى الله عليه وسلم، مطلقاً.

وهذا الدواء - التجريبي - للخدر كان معروفاً عند الجاهليين قبل الإسلام جُرَّب فنفع، وليس فيه إلا ذكر المحبوب، وقد جاءت الأشعار بهذا كثيرا في الجاهلية والإسلام.

فمنها: قول الشاعر:

صبُّ محبُّ إذا ما رِجْلُه خَدَرت .. نادى (كُبَيْشَةَ) حتى يذهب الخَدَر

وقال الآخر:

على أنَّ رجلي لا يَزَالُ امْذِ لُها .. مقيماً بها حتى أُجيْلَكِ في فكري

وقال كُثَيَّر عزّة:

إذا مَذَلَتْ رجلي ذكرتُكِ اشتفي .. بدعواك من مَذْلٍ بها فيهون

وقال جميلُ بثينةَ:

وأنتِ لعَيْنِيْ قُرَّةٌ حين نَلْتَقِيْ .. وذِكْرُكِ يَشفِيْني إذا خَدَرتْ رجلي

وقالت امرأة:

إذا خدرت رجلي دعوتُ ابنَ مُصْعبٍ .. فإنْ قلتُ: عبدَ اللهِ أجْلَى فتورَها

وقال الموصلي:

واللهِ ما خَدَرَتْ رجلي وما عَثَرَتْ .. إلا ذكرتُكِ حتى يَذْهبَ الخدَرُ

وقال الوليد بن يزيد:

أثيبي هائماً كَلِفاً مُعَنَّى .. إذا خَدَرتْ له رجْلٌ دَعاكِ

وغير ذلك من الأشعار، أفيقال: إن هؤلاء توسلوا بمن يحبونه، من نساءٍ ورجال، وأجيب سؤلهم، وقبلت وسيلتهم؟!

الحديث الثامن

ما ذكره ابن كثير الدمشقي في تاريخه البداية والنهاية في ذكر وقعة بني حنيفة حيث قال: "وحمل خالد بن الوليد حتى جاوزهم وسار لجبال مسيلمة وجعل يترقب أن يصل إليه فيقتله، ثم رجع، ثم وقف بين الصفين ودعا البراز وقال: أنا ابن الوليد العود، أنا ابن عامر وزيد، ثم نادى بشعار المسلمين وكان شعارهم يومئذ: يا محمداه" اهـ

والجواب: أن هذا الخبر باطل، ليس له سند يعرف، والثابت أن شعار المسلمين في حروبهم هو: يا منصور أمت. يتفاءلون بالنصر، أي: أيه المنصور بإذن الله اجتهد في القتال حتى الموت.

ثم لو صحت أيضاً لم تكن دليلاً لهؤلاء، لأن هذا مجرد شعار يتعارف به المسلمون به في معمعة الحرب، لكي لا يقتل بعضهم بعضاً، ويستحث به بعضهم بعضاً، وليس بمعنى الاستغاثة بل معناه: يا أنصار النبي محمد جدّوا في الحرب بقدر وسعكم، ومثل هذا معروف عند العرب في الجاهلية، وبعد الإسلام، حيث كانت القبائل العربية في حروبها تعتزي بأسلافها، لكي يعرف بنو القبيلة بعضهم، فلا يقتل بعضهم بعضاً، كما يستخدمونه في استحثاث قومهم، وتشجيهم، على الضراوة في الحرب، قال الأخطل في وقعة جرت بين تغلب وقيس عيلان:

تركوا عميراً والرماح ينشنه .. يدعو وقد حمي الوغى منصورا

أي: يدعوا قومه بني منصور بن عكرمة بن خصفة بن قيس عيلان، وهو جدّ قبائل سليم ومازن وهوازن. وكان شعارهم في الحرب: يا منصور، يعتزّون بجدهم الذي ينسبون إليه، لا أنهم كانوا يستغيثون بجدهم منصور!

الحديث التاسع

احتجوا بحديث الشفاعة الكبرى، عندما يتوجه الناس يوم القيامة إلى آدم ثم نوح ثم إبراهيم ثم موسى ثم عيسى ثم النبي محمد صلى الله عليه وسلم.

والجواب: أن الناس عندما يهرعون إلى الأنبياء في ذلك الوقت، يكون النبي صلى الله عليه وسلم حياً حياة كاملة، ويسمع ويبصر وقادر على أن يشفع، فتوافرت فيه شروط الدعاء والاستغاثة والاستعانة والاستعاذة الجائزة.

زيادة على أن حديث الشفاعة، ينقض ملة هؤلاء المشركين، فنجد في هذا الحديث أن الأنبياء، بل أولي العزم من الأنبياء، وصفوة الأنبياء، يخافون في ذلك اليوم من الله تعالى، حتى إنهم لا يجرئون على الشفاعة للناس، ولا يجرئ على ذلك إلا نبينا محمد صلى الله عليه وسلم، ثم عندما يحضر أمام الرب عز وجل، يسجد لله تعالى، ويسبحه ويمجده ويعظمه ويقدسه، حتى يرضى عنه، ويأذن له في الشفاعة.

فأين ما يزعمه هؤلاء المشركون من أن الأنبياء والأولياء لا ترد دعوتهم، وأن لهم عند الله مكانة ووجاهة، فلا يرد لهم طلب، وأنهم بهذا ينفعون ويضرون، بإذن الله تعالى، ولذلك يجيزون دعائهم من دون الله تعالى!! 

الحديث العاشر

عن أبي حَرْبٍ الْهِلَالِيُّ، قَالَ: حَجَّ أَعْرَابِيٌّ فَلَمَّا جَاءَ إِلَى بَابِ مَسْجِدِ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَاخَ رَاحِلَتَهُ فَعَقْلَهَا ثُمَّ دَخَلَ الْمَسْجِدَ حَتَّى أَتَى الْقَبْرَ وَوَقَفَ بِحِذَاءِ وَجْهِ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَ:"" بِأَبِي أَنْتَ وَأُمِّي يَا رَسُولَ اللهِ جِئْتُكَ مُثْقَلًا بالذُّنُوبِ وَالْخَطَايَا مُسْتَشْفِعًا بِكَ عَلَى رَبِّكَ لِأَنَّهُ قَالَ فِي مُحْكَمِ كِتَابِهِ وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ جَاءُوكَ فَاسْتَغْفَرُوا اللهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ لَوَجَدُوا اللهَ تَوَّابًا رَحِيمًا، وَقَدْ جِئْتُكَ بِأَبِي أَنْتَ وَأُمِّي مُثْقَلًا بالذُّنُوبِ وَالْخَطَايَا أَسْتَشْفِعُ بِكَ عَلَى رَبِّكَ أَنْ يَغْفِرَ لِي ذُنُوبِي وَأَنْ تَشْفَعَ فِيَّ ثُمَّ أَقْبَلَ فِي عَرْضِ النَّاسِ، وَهُوَ يَقُولُ:

يَا خَيْرَ مَنْ دُفِنَتْ فِي التُّرْبِ أَعْظُمُهُ ... فَطَابَ مِنْ طِيبِهِ الْأَبْقَاعُ وَالْأَكَمُ

نَفْس الْفِدَاءُ بقَبْرٍ أَنْتَ سَاكِنُهُ ... فِيهِ الْعَفَافُ وَفِيهِ الْجُودُ وَالْكَرَمُ

وَفِي غَيْرِ هَذِهِ الرِّوَايَةِ فَطَابَ مِنْ طِيبِهِ الْقِيعَانُ، وَالْأَكَمُ " انتهى .

والجواب: أن هذا الحديث كسابقيه، ليس للمشركين فيه حجة على جواز دعاء النبي والاستغاثة به من دون الله تعالى، فالأعرابي لم يقل: يا رسول الله أغفر لي، بل جاء مستغفراً الله تعالى، ومستشفعاً بالنبي ليقبل الله استغفاره وتوبته، فالاستغفار لله، والاستشفاع بالنبي، فأين هذا ممن يستغفر النبي والولي من دون الله؟! ويسأله العفو والتوبة من دون الله؟!

ثم إن هذه القصة أصلا لا تصح من حيث السند، فحسبك أنه لم يروها سوى البيهقي، وهو حاطب ليل وجارف سيل، ورواها بإسناد مظلم، لا تقوم بمثله حجة ولو كان الحديث مرفوعاً، فكيف تقوم به حجة في هذا الخبر!

ثم هي مرويّة عن أعرابي مجهول، فمتى كان فعل الأعرابي أو غيره من الناس حجة في دين الله تعالى، إن لم يكن فعلهم عليه دليل من كتاب الله أو سنة رسوله صلى الله عليه وسلم.

الحديث الحادي عشر والأخير

عن أبي بكر المنقري قال: كنت أنا والطبراني وأبو الشيخ في حرم رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكنا على حالة فأثر فينا الجوع، فواصلنا ذلك اليوم، فلما كان وقت العشاء حضرت قبر رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقلت: يا رسول الله الجوع الجوع، وانصرفت، فقال لي الطبراني اجلس، فإما أن يكون الرزق أو الموت، فقمت أنا وأبو الشيخ، فحضر الباب علوي ففتحنا له فإذا معه غلامان بقفتين فيهما شيء كثير، وقال: شكوتموني إلى النبي صلى الله عليه وسلم، رأيته في النوم فأمرني بحمل شيء إليكم " ؟

والجواب: هذا الخبر ليس عن الله ولا عن رسوله، وإنما تؤخذ الأحكام الشرعية من كتاب الله وسنة رسوله، فمن خالفها استحق الذم، فضلاً عن أن يكون قوله أو عمله حجة يحتج بها!

وهذه القصة، مع مخالفتها للآيات الصريحة، والأحاديث الصحيحة، إلّا أن لنا أيضاً معها وقفة، فالعلوي ذكر أن النبي أتاه في المنام، وأمره بأن يحمل إلى المنقري ورفاقه طعاماً، وذلك بسبب دعاء المنقري له، وشكاية الجوع إليه، فهل رأى العلوي حقاً النبي بصفته في المنام، أم أن العلوي رأى شيطاناً تمثل في هيئة رجل، وقدّم نفسه للعلوي على أنه رسول الله، وأخبره بشكاية المنقري الجوع إليه، وأمره بحمل طعام لهم، ومراده من هذا أن يضلهم ويضل العلوي معهم، ويضل بهم من لم يرد الله به خيراً، فإذا رأوا ذلك، ظنوا أن هذا ينفعهم حقاً، فصرفوا الدعاء للنبي من دون الله تعالى، بحجة أن هذا نفعهم يوم أصابهم الجوع، بدليل أن النبي حضر للعلوي وأمره بإطعامهم، فيقعون بهذا في الشرك الأكبر، ويخرجون من الإسلام كما دخلوا فيه، ولا شك إن صحّت هذه الرواية، أن ما رآه العلوي شيطان، بدليل أن هذا الخبر يخالف القرآن والسنة، والنبي لا يمكن أن يخالفهما، كيف وهو أصلاً من بلغهما وأمر الناس بالعمل بهما!

ولكن مع هذا فالخبر لا يصح، ولا يعرف له إسناد، إنما يرويها أغبياء المحدثين، الذين يروون كل شاذة وفاذة، بلا عقل ولا بصيرة، لا يعتمد عليه في شيء، لا في إثبات الأحكام، ولا في العقائد من باب أولى.

فقد رواها ابن الجوزي في كتاب الوفا بأحوال المصطفى، بدون إسناد، وذكرها الذهبي في كتبه أيضاً بصيغة التمريض "رُوِي" ولم يذكر لها إسناداً.

وواعجبي من قوم يخالفون الآيات الصريحة والأحاديث الصحيحة التي تنهى عن دعاء غير الله تعالى، ويتشبثون بهذه الأخبار وهي ما بين ضعيفة وباطلة، ثم هي لا تدل على مرادهم وما يدعون إليه من الشرك الأكبر والعياذ بالله تعالى.

وعلى كل فكل دليل يطرحه هؤلاء القوم، إما ضعيف سنداً ولا حجة فيه، أو أنه لا يدل على جواز ما يقومون به من الشرك والإلحاد والعياذ بالله، إنما يقدمونه للجهلة ليشرعنوا به باطلهم، وهم يزعمون أنهم لا يحتجون إلا بالصحيح من الأخبار، ولكن هذا مجرد كلام فارغ، فلا يصح عندهم إلا ما وافق أهوائهم وإن كان موضوعاً، والضعيف والموضوع عندهم ما خالف أهوائهم وإن كان مسلسل بالثقات، نعوذ بالله من الضلال.

وهؤلاء المشركون لديهم حيل ومخاريق، يلبسون بها على الناس، ويصطادون بها من لم يرد الله تعالى به خيرا، فلما كان شركهم ظاهراً لكل أحد، ألهمهم الشيطان ببعض الحيل:

فزعموا أنهم يعتقدون أنه لا ينفع ولا يضر إلا الله وحده، وأن الملك والخلق لله وحده، ولكن هؤلاء لما لهم من وجاهة ومكانة عند الله ندعوهم، فيدعون الله لنا، فيستجيب لهم فينا.

والجواب على ذلك: أن هذا هو عين شرك مشركي قريش في الجاهلية، والدليل على ذلك قوله تعالى: (وَيَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَضُرُّهُمْ وَلَا يَنفَعُهُمْ وَيَقُولُونَ هَٰؤُلَاءِ شُفَعَاؤُنَا عِندَ اللَّهِ) وقال تعالى: (مَا نَعْبُدُهُمْ إِلاَّ لِيُقَرِّبُونا إِلَى اللَّهِ زُلْفى) فلم يكن مشركي قريش يعتقدون في ألهتهم أنها تنفع وتضر من دون الله، بل تنفع وتضر بإذن الله تعالى، وإنما يدعونها بزعمهم لما لها من مكانة ووجاهة عند الله، وهي تدعو الله لهم، فيستجيب الله دعائها، فيدفع عنهم ما يضرهم، ويجلب لهم ما ينفعهم.

ولما رأوا أن هذه الحيلة قد بطلت، زعموا أن مشركي العرب قبل الإسلام كانوا يعبدون الحجر والأشجار، بينما هم يدعون أناساً صالحين، من أنبياء وأولياء، ولا يقاس الأنبياء والأولياء بالحجر والشجر.

والجواب على ذلك: أن هذا باطل، فمشركوا العرب قبل الإسلام، كانوا يدعون الملائكة، ويدعون الجنّ، ويدعون الصالحين، زيادة على دعائهم للأحجار والأشجار، ومع ذلك وصف الله تعالى فعلهم بأنه شرك، على كل حال، فقال تعالى: (وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعًا ثُمَّ يَقُولُ لِلْمَلَائِكَةِ أَهَؤُلَاءِ إِيَّاكُمْ كَانُوا يَعْبُدُونَ قَالُوا سُبْحَانَكَ أَنْتَ وَلِيُّنَا مِنْ دُونِهِمْ بَلْ كَانُوا يَعْبُدُونَ الْجِنَّ أَكْثَرُهُمْ بِهِمْ مُؤْمِنُونَ)

فلما رأوا أن هذ الحيلة قد بطلت، زعموا أن دعاء النبي والولي من دون الله تعالى لا يكون شركاً إلا إذا اقترن معه اعتقاد الربوبية أو الألوهية في المدعو من دون الله تعالى.

والجواب على ذلك: أن هذا شرط باطل، وإلا فأين يجدون في كتاب الله تعالى أن من شرط النهي عن دعاء غير الله تعالى عدم اعتقاد الربوبية أو الألوهية في غير الله تعالى!

فهؤلاء كمن يقول: أن الله أرسل النبي وأنزل الكتاب ليقول لأبي جهل وأبي لهب وأبي بن خلف لا بأس أن تدعو غير الله من ملاك أو إنسيّ أو جني أو وثن ولكن لا تقولوا عنه أنه رب أو إله!!

وهذا كلام لا يقول به إلا أسخف الناس عقلا وأسقمهم فهماً لأنه جعل الدين قشوراً بلا لب وعنواناً بلا مضمون. وخالفوا صريح الكتاب والسنة ببهرجة من القول يلبسون بها من أعمى الله بصيرته .

ثم إن مجرد دعائهم للأنبياء والأولياء هو عبادة منهم لهم! واتخذا منهم لهم أرباباً وألهةً من دون الله تعالى، والدليل على ذلك قوله تعالى: (اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِّن دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا إِلَٰهًا وَاحِدًا ۖ لَّا إِلَٰهَ إِلَّا هُوَ ۚ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ) قال عدي بن حاتم الطائي: قلت: يا رسول الله، إنا لسنا نعبدُهم! فقال: أليس يحرِّمون ما أحلَّ الله فتحرِّمونه, ويحلُّون ما حرَّم الله فتحلُّونه؟ قال: قلت: بلى! قال: فتلك عبادتهم! فوصف الله اليهود النصارى بأنهم اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أرباباً من دون الله تعالى، وأنهم عبدوهم من دون الله، مع أنهم لم يصفوهم بالربوبية مطلقاً، ولا قالوا بأنهم آلهة تعبد، فكان مجرد العمل، كاف في اتخاذهم لهم أرباباً وألهة تعبد! ثم انظر كيف فهم عدي - واقره النبي على هذا الفهم - من اتخاذ الشيء رباً هو من اتخاذه ألهة، وأن طاعته فيما خالف أمر الله تعالى، من اتخاذه آلهة.

وقد علم بالعقل والفطرة والنقل أن السعادة والشقاء والرزق والنصر والهزيمة والصحة والمرض والحياة والموت والجنة والنار أشياء لا يملكها ولا يقدر عليها إلا الله عز وجل

فلا يهب بالسعادة والغنى والولد والنصر والصحة والحياة والجنة إلا الله وحده لا شريك له لا شريك له في ذلك لا نبي ولا ولي ولا ملك ولا أي شيء.

ولا يدفع الشقاء والفقر والعقم والهزيمة والمرض ولا يميت ولا ينجي من النار إلا الله وحده لا شريك له.

بل حتى فيما يقدر عليه البشر من أمور الدنيا التي أقدرهم الله عليها يجب عليك أن تؤمن بأنه بدون إعانة الله فإن الإنسان عاجز عن أن يقوم بأي شيء

فأجاز الله تعالى أن يستعين ويستعيذ ويستغيث البشر بعضهم ببعض في ما أقدرهم عليه فقط من أمور الدنيا، وأما ما عدا ذلك فإن الإنسان يعرض نفسه للهلاك والوقع في الشرك، فعليه أن يحذر.

ولذلك قال أهل العلم حقا وصدقا أنه لا يجوز لأحد أن يستغيث ويستعيذ ويستعين بمخلوق إلا إذا توفرت فيه ثلاث شروط:

1- أن يكون حيا لا ميتا

2- وأن يكون حاضراً لا غائباً

3- أن يكون في ما يقدر عليه المخلوقون عادة من أمور الدنيا

فمن دعا ميتاً أو غائباً أو دعا أحداً من خلق الله في أمر من الأمور التي لا يقدر عليها إلا الله والتي بيناها سابقاً، وظن أنه قادر على إجابته فقد وقع في الشرك الأكبر،سواء زعم أن المدعو قادر على نفعه أو ضره استقلالاً من دون الله تعالى، أو لما له من شفاعة ومكانة عند الله تعالى.

فهذا النوع من العبادة هو الذي وقع فيه مشركوا العرب قبل الإسلام، وكانوا يسمونه توسلاً واستشفاعاً، كما يسميه الصوفية والرافضة اليوم توسلاً واستشفاعاً، فأكذبهم الله تعالى في قوله تعالى: (وَيَعْبُدُونَ مِن دُونِ ٱللَّهِ مَا لَا يَضُرُّهُمْ وَلَا يَنفَعُهُمْ وَيَقُولُونَ هَٰٓؤُلَآءِ شُفَعَٰٓؤُنَا عِندَ ٱللَّهِ ۚ قُلْ أَتُنَبِّـُٔونَ ٱللَّهَ بِمَا لَا يَعْلَمُ فِى ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَلَا فِى ٱلْأَرْضِ ۚ سُبْحَٰنَهُۥ وَتَعَٰلَىٰ عَمَّا يُشْرِكُونَ) 

فذكر الله تعالى أن المشركين، كانوا يدعون المخلوقات من دون الله تعالى، ويسمون ذلك توسلاً واستشفاعاً، فبيّن الله تعالى، أن هذا ليس توسلاً ولا استشفاعاً بل هذه عبادة لهم من دونه، وسبحه نفسه وقدسها عن هذا الشرك والظلم المبين!

ومن سأل غير الله في هذه الاشياء فقد أشرك الشرك الأكبر، لأنه ساوى بين قدرة الله وقدرة هذا المخلوق، أو زعم من حيث يشعر أو لا يشعر أن الله أشرك هذا المخلوق معه في ربوبيته أو ألوهيته.

ومن تحايل هؤلاء في شرعنة باطلهم، أنهم يأخذون أحاديث التوسل المشروع والتوسل البدعي، ويحتجون بها على جواز التوسل الشركي، وهذا من أعجب العجب!!

فيا عباد الله، الله الله في أنفسكم والله إن العبد الذي يبتغي مرضات الله ليجد الأمر فيه شبه فيجتنبه فكيف وهذا الأمر هو الشرك الأكبر الذي بسببه سوف تخلد في النار أليس أحق بأن تبتعد عنه وتتجافاه !!

والله أعلم وأحكم وصلى الله وسلم على سيدنا محمد وعلى آله واصحابه ومن أتبع سنته إلى يوم الدين.