إن الناظر في معتقد المعتزلة والاشاعرة، يعلم يقيناً أنهم لم يأخذوا معتقدهم في صفات الله تعالى، إلّا من كتب ملاحدة فلاسفة الإغريق، وذلك للتطابق الشديد بين معتقد المعتزلة والأشاعرة ومعتقد ملاحدة فلاسفة الإغريق.
ولعل أكثر من أثّر في المعتزلة والأشاعرة من الفلاسفة هم: فيثاغورس وأفلاطون وأرسطوطاليس وجالينوس وأفلوطين، لذلك تجد المعتزلة والأشاعرة أحياناً ما يصرّحون بالنقل عن هؤلاء الفلاسفة، وأكثر الأحيان لا يصرّحون بذلك، ربما ليجعلوا مصدر عقيدتهم سرّاً حتى لا يُتّخذ من ذلك مطعناً فيهم، إلّا أن وله بعضهم بفلاسفة الإغريق، تجعله يصرّح بذكر أسمائهم، كما فعل الرازي والإيجي.
وأنا أنقل هنا نصوصاً في معتقد فلاسفة الإغريق، لإثبات التشابه الكبير بين عقيدتهم وعقيدة الأشاعرة والمعتزلة.
يقول الإيجي الأشعري في كتابه المواقف: "مذهب جالينوس في حدوث الأجسام مسالك، المسلك الأول، وهو المشهور، الأجسام لا تخلو عن الحوادث، وكل ما لا يخلو عن الحوادث فهو حادث" اهـ
ومن هنا نعلم، من أين جاء الأشاعرة والماتريدية، وسلفهم المعتزلة، بالأصل الذي بنو عليه معتقدهم في تعطيل صفات الله تعالى الفعليّة.
بوهذا الأصل، حرّف الاشاعرة والماتريدية وسلفهم المعتزلة، الآيات والأحاديث الدالة على ثبوت الصفات الفعلية لله تعالى.
تختصر لنا الباحثة المغربيّة الدكتورة بشرى زكاغ عقيدة أرسطوطاليس في الإله، في مقالها بعنوان: فكرة الإله عند أرسطو وامتدادها في الثقافة الغربيّة. ما نصّه: "بأنّ الإله محرك لا يتحرك، فكل محرك سواء أكان شخصًا أو شيئًا أو فكرةً، يحرك شيئًا ويحركه شيء، فالمحراث يحرك التربة، واليد تحرك المحراث، والعقل يحرك اليد والرغبة في الطعام تحرك العقل، وغريزة حب الحياة تحرك الرغبة في تناول الطعام والشراب. ولكن الإله حسب أرسطو لا يمكن أن يكون نتيجة لأي عمل، بل هو مصدر كل عمل، إنّه محرك العالم الذي لا يتحرك، يقول في هذا الطرح: "ينبغي أن تنتهي سلسلة المتحركات إلى محرك أول لا يتحرك وهو أصل الحركة بجميع أشكالها في الكون"، وطبيعة هذا المحرك أنّه: ينبغي أن يكون محركًا أزليًّا، لأنّه لو تحرك بغيره فمعنى هذا أنّه يوجد شيء آخر يحركه، فهو لا يمكن أن يكون محركًا بغيره بل محرك بذاته. وينبغي أن يكون غير منقسم وغير ذي كم، أي أنّه أبدي لا ينقسم لأنّه، إذا انقسم تعدد ولو تعدد لأصبح له أجزاء، وعندها لا نستطيع أن نعرف الحركة من أي جزء، وهو لا يكمم (من الكمية) لأنّه خالٍ من المادة. وينبغي أن يكون بالفعل دائمًا: أي أنّه فعل محض خالص. وينبغي أن يكون عقلاً بالفعل وأن يكون موضوع عقله أسمى المعقولات، أي أنّه عبارة عن فكر وعقل، وما دام فكرًا وعقلاً فهو أقرب إلى الأشياء الإلهية. ومن ثم يعتبر أرسطو أنّ الإله جوهر تتحد فيه الذات بالموضوع، من حيث لا يعقل إلا أشرف الأشياء وأنفسها وهي ذاته، ويتنزه عن عقل ما دونها شرفًا أو نفاسة، لما يدخل ذلك عليه من نقص، فهو والحال هذه عقل يعقل العقل، وإله أرسطو بعد ذلك لا يهمه أمر العالم، وإن كان أمره يهم العالم، ومعناه أنّ الإله إذا اهتم بالعالم تعرض للانفعالات النفسية التي قد تدفعه إلى تغيير رأيه منفعلاً ومتأثرًا، كأن يمتلئ غضبًا أو أن ينعم على من يحب من الناس، أي أنّه يكون ناقصًا، ولكن الإله في فلسفة أرسطو يجب أن يكون كاملاً يسمو على الانفعال والتغير".
هذه باختصار عقيدة أرسطوطاليس في صفات الإله!
فلقول أرسطو: بأن الإله محرك لا يتحرك، نفى الأشاعرة والمعتزلة الحركة ولوازمها من الإتيان والمجيء، عن الله تعالى، وبالتالي حرّفوا الآيات الواردة في إتيان الله ومجيئة، بإتيان أمره ومجيء أمره، مع أن الآيات والأحاديث تدل على بطلان تأويلهم، وأن الله تعالى يأتي ويجيء بنفسه، أي: أن الله تعالى يتحرك.
ولقوله أرسطو: وينبغي أن يكون غير منقسم وغير ذي كم. نفى الأشاعرة والمعتزلة صفات الله تعالى، لأن إثبات الصفات لله تعالى بزعمهم، يلزم منه أن يكون الله منقسماً وذا كم! وكل ما ورد من الآيات في إثبات الصفات، تأولوها من الصفات، بما لا يفيد عندهم أن الله منقسم أو ذا كم، مثال: يتأولون اليد بالقوة أو النعمة!
ولقول أرسطو: أن الله تعالى لا تعتريه الانفعالات النفسيّة وأنه لا يغضب ولا يرضى ولا يحب، نفى الأشاعرة والمعتزلة أن الله تعالى يشعر، فعندهم أن الله تعالى لا يغضب ولا يرضى ولا يحب، وجميع الىيات التي وردت في إثبات هذه الصفات لله تعالى، يتأولونها من الصفات بما لا يتعارض مع قول أرسطو، فيتأولون الغضب بلازمها، وهي إرادة العذاب، ويتأولون الرضى والحب، بإرادة النعيم، فيتأولونها بالإرادة.
ويختصر لنا زكي نجيب محمود وأحمد أمين، معتقد أفلوطين في صفات الإله، في كتابيهما: قصة الفلسفة اليونانية، ما نصّه: " إن هذا العالم كثير الظواهر دائم التغير، وهو لم يوجد بنفسه بل لا بُدَّ له من علة سابقة هي السبب في وجوده، وهذا الذي صدر عنه العالم «واحد» غير متعدد، لا تدركه العقول ولا تصل إلى كُنهه الأفكار، لا يحده حد، وهو أزلي أبدي قائم بنفسه، فوق المادة وفوق الروح وفوق العالم الروحاني، خلق الخلق ولم يَحُلَّ فيما خلق، بل ظل قائمًا بنفسه على خلقه، ليس ذاتًا وليس صفة، هو الإرادة المطلقة لا يخرج شيء عن إرادته، هو علة العلل ولا علة له، وهو في كل مكان ولا مكان له. ولما كان الشبه منقطعًا بينه وبين الأشياء لم نستطع أن نصفه إلا بصفات سلبية، فهو ليس مادة وهو ليس حركة وليس سكونًا، وليس هو في زمان ولا مكان، وليس صفة لأنه سابق لكل الصفات، ولو أُضيفت إليه صفة ما لكان ذلك تشبيهًا له بشيء من مخلوقاته، وبعبارة أخرى لكان ذلك تحديدًا له، وهو لا نهائي لا تحده الحدود، فلسنا نعلم عن طبيعة الله شيئًا إلا أنه يخالف كل شيء ويسمو على كل شيء. ولأن الله فوق العالم ولأنه غير محدود لا يمكنه أن يخلق العالم مباشرة، وإلا لاضطر إلى الاتصال به، مع أنه بعيد عنه لا ينزل إلى مستواه، ولأنه واحد لا يمكن أن يصدر عنه العالم المتعدد، ولا يستطيع أن يخلق الله العالم؛ لأن الخلق عمل، أو إنشاء شيء لم يكن، وذلك يستدعي التغيير في ذات الله، والله لا يتغير، يقول أفلوطين: إنَّ الله علَّة العالم، ويقول من ناحية أخرى: إن الله فوق العالم، ولا يمكن أن يتصل به أي اتصال، هذان قولان متناقضان، فكيف التوفيق بينهما؟ وكيف نشأ العالم عن الله؟ فلجأ أفلوطين في الإجابة عن هذا إلى الشعر والاستعارة والتمثيل، يقول: إن تفكير الله في نفسه وكماله نشأ عنه فيض، وهذا الفيض صار هو العالم، وكما يبعث اللهيب ضوءًا والثلج بردًا كذلك انبعث من الله شعاع كان هو العالم. وبذلك خرج أفلوطين من المأزق المنطقي بعبارات شعرية؛ وعلى ذلك يكون الكون قد انبثق من الله انبثاقًا طبيعيًّا بحكم الضرورة، ولكن ليس في هذه الضرورة أي معنًى من معاني الاضطرار والإلزام، وليس في الخلق معنى الحدوث وليس يقتضي تغيرًا في الله".
فقول أفلوطين: وهذا الذي صدر عنه العالم «واحد» غير متعدد. أخذ منه الأشاعرة والمعتزلة نفي صفات الله تعالى، لأن إثبات صفات متعددة لله تعالى، يلزم منه إثبات التعدد لذات الله تعالى، حسب زعمهم!
وقول أفلوطين: لا يحده حد. أخذ منه الأشاعرة والمعتزلة نفي الحد لله تعالى.
وقول أفلوطين: ليس ذاتاً وليس صفة. أخذ منه الأشاعرة والمعتزلة، بأن الله ليست له ذات حقيقية.
وقول أفلوطين: وهو في كل مكان ولا مكان له. أخذ منه بعض المعتزلة أن الله في كل مكان، ومنها نشأت عقيدة الحلول والاتحاد، والتي عليها بُنيَت عقيدة وحدة الوجود ووحدة الشهود، وأخذ منه بعض المعتزلة وجميع الأشاعرة والماترية، أن الله تعالى بلا مكان، ولا يعرف لله مكان!
وقوله أفلوطين: أن الله ليس حركة ولا سكون. أخذ منه الأشاعرة والمعتزلة نفي الصفة وضدها، فهم يصرّحون ويقولون بأن الله لا يتحرك وليس بساكن!
وقول أفلوطين: أن الله ليس في زمان ولا مكان. أخذ منه الأشاعرة والمعتزلة أن الله تعالى بلا زمان ولا مكان.
وقول أفلوطين: ولو أُضيفت إليه صفة ما لكان ذلك تشبيهًا له بشيء من مخلوقاته. وقوله: فلسنا نعلم عن طبيعة الله شيئًا إلا أنه يخالف كل شيء. أخذ منه الأشاعرة والمعتزلة نفي جميع أوجه التشابه بين صفات الله وصفات خلقه، وقولهم: كل ما خطر ببالك فالله بضدّ ذلك.
وقول أفلوطين: ولا يستطيع أن يخلق الله العالم؛ لأن الخلق عمل، أو إنشاء شيء لم يكن، وذلك يستدعي التغيير في ذات الله، والله لا يتغير. أخذ منه الأشاعرة والمعتزلة إنكار أن الله تعالى يعمل، أو يتحرك، ومنه أيضاً أخذوا قولهم بأن الله تعالى لا يتغيّر.
وقول أفلوطين: أن الله تعالى نشأ عنه فيض، وهذا الفيض صار هو العالم. أخذ منه الأشاعرة والمعتزلة أن الله خلق الكون بواسطة الفيض الذي يفيض منه.
قلت: فإذا قارنت بين أقوال فلاسفة الإغريق، وبين معتقد المعتزلة والأشاعرة في صفات الله تعالى، وجدتها متطابقة.
وملاحدة فلاسفة الإغريق، ليسوا بأنبياء، لا ينزل عليهم وحي من السماء، وليسوا بأتباعٍ للأنبياء، إنما يظنون ظناً، ويخرصون خرصا، ويرث بعضهم قول بعض، ويضيف إليه ما تيّسر من أوهامه وظنونه وتخرصاته!
وأن المعتزلة والأشاعرة، عندما يقولون: الحجج العقليّة، فإنما مرادهم، هرطقات وظنون وأوهام أئمتهم فلاسفة الإغريق.
وقد بيّنت بطلان قولهم في صفات الله تعالى في كتابي: صفات الله عز وجل بفهم العرب الأميين الذين نزل الوحيان بلغتهم، وأثبت بالأدلة النقلية واللغوية والعقلية أن صفات الله تعالى تشبه صفات البشر خصوصاً في كثيرٍ من نواحيها، وأن تعدد الصفات لا يعني تعدد الذوات.
فيا أيها العقلاء، أيّ عقل هذا، الذي يقطع في أمر غيبي لم تدركه العقول.
وأيّ عقل أو دين عند هؤلاء المعتزلة والأشاعرة، الذين جعلوا ظنون وتخرصات وأوهام ملاحدة الإغريق، مقدّمة على القرآن الذي هو كلام الله وعلمه والسنّة التي هي كلام رسول الله وعلمه!