إن الناظر في أحوال علماء المسلمين الأوائل، يجد أنهم مقبلون على جميع الأحاديث المروية عن النبي صلى الله عليه وسلم، وصحابته الكرام، والتابعين الأخيار، ودراسة أسانيدها ومتونها، ونخلها وتصفيتها كل بحسب قدرته وما أتاه الله من الذكاء والعقل والفطنة.
لذلك تجد كتب علماء المسلمين الأوائل، كلها كتب حديث، حتى فيما يردون به على أهل الأهواء والبدع، مثل الجهمية والمعتزلة والكلابية، أسلاف الأشاعرة والماتريدية، تجدهم يردون عليهم بالحجج الدامغات من القرآن العظيم والسنة النبوية المطهرة، التي لا يؤمن هؤلاء الملاحدة بها.
ثم صار التأليف شبه منقطع في المدرسة السنيّة السلفية، لعدم الحاجة في ذلك، ففي التفسير وفي العقائد والعبادات والمعاملات جمعت الأحاديث والآثار، وصنفت فيها الكتب، فلم يعد هناك حاجة لمزيد من التواليف، لذلك كان اقبال المدرسة السنية السلفية للتأليف ضعيف جداً، لعدم الحاجة إلى ذلك كما ذكرت سابقاً.
وهذا على النقيض تماما مما وقع من المتكلمين، فهم يقبلون وبنهم إلى تأليف الكتب في التفسير وفي شرح الحديث، حتى امتلأت رفوف المكتبات بتفاسيرهم وشروحاتهم، وهي معلومات مكررة في كل كتاب يقومون بتأليفه، ليس ثمة زيادات مهمة، وهذا الإقبال له أسبابه ودوافقعه، وهي:
أولها: حب الشهرة والظهور، بتصنيف هذه الكتب الموسوعية، والتباهي بذلك، فكل يريد أن يصنف كتابا يبقى شاهداً على غزارة علمه، وسعة معرفته، وإن تظاهر بخلاف ذلك!
وثانيها: الرغبة في تحريف نصوص الآيات والأحاديث، فأهل الكلام أدركوا أنه لا يمكن إفساد دين المسلمين إلا من خلال القرآن والسنة، وبما أن القرآن قد حفظ من الزيادة والنقصان، فقد هرعوا إلى تحريف معانيه، ويبقى لنص الظاهر المحفوظ، شاهد على كذبهم فيما حرفوا من معانيه، بينما السنة إما يقنعون القارئ بأنها ليست حجة، بإلقاء شبههم التي يشبهون بها على الأغمار، أو يحرفون معانيها كما حرفوا معاني كتاب الله تعالى.
لذلك كان السلف رضوان الله عليهم، لحرصهم على جناب التوحيد، وعلى حمى الشريعة، يحرمون مطالعة كتب هؤلاء القوم، ويأمرون بإتلافها، ويحرمون الجلوس إليهم، وتلقي العلم منهم، حتى هلك العلماء حقا وصدقا، ونشأت الرؤوس الجهال، فأفتوا بجواز مطالعة هذه الكتب، بل وحضوا عليها، وحسنوها لتلاميذهم، ورغبوهم في الجلوس إلى هؤلاء الضلال، لتلقي العلم عليهم، فأصاب الناس من ذلك شرٌّ عظيم، وهلك من تلاميذهم من لم يرد الله به خيرا.