تقديم الأشاعرة والمعتزلة للعقل على النقل

من المسلمات عند المتكلمين من المعتزلة والأشاعرة، أن العقل مقدم على النقل، ويزعمون أن العقل لا يخطئ، وأن النقل لا يفيد سوى الظن، ويحتكمون إلى حجج العقل وأدلته، ويسمونها القواطع العقلية.

وهم في ذلك يتابعون أئمتهم ملاحدة فلاسفة الإغريق، وهو أن العقل هو الحكم الفصل، ولا يزال الملاحدة إلى اليوم يزعمون الاحتكام إلى العقل، وأن العقل هو أعظم الأشياء، مع أنهم في الحقيقة لا يحتكمون إليه، وإنما يحتكمون لأهوائهم!

فعند الأشاعرة والمعتزلة، إذا ورد في النقل بما لا يقبله العقل بزعمهم، وجب تأويله على غير معناه الظاهر، يما يتوافق مع الحجج العقلية!

ولكن ما الذي أرادوه بهذا اقول! وهل هم حقاً يريدون بذلك أتباع الحق، أم أتباع الهوى؟

إن الناظر في حقيقة هؤلاء القوم، يدرك تمام الإدراك، أن المتكلمين، لم يريدوا الحق فيما ذهبوا إليه، وأنهم إنما أرادوا بهذا الأقوال، وما أسسوه من القواعد والأصول، إرغام الشريعة، حتى تأتي متوافقة مع فلسفة ملاحدة اليونان، في تصورهم للذات الإلهية.

فهم لما رأوا أن الآيات القرآنية والأحاديث النبوية الصحيحة، تخالف تصور ملاحدة اليونان للذات الإلهية، بدأوا في الطعن في السنّة، لكون كثير من نصوصها صريحة لا تقبل التأويل.

يقول الرازي في كتاب المطالب العالية، وهو والله المطالب السافلة ما نصه: "أن الأخبار المذكورة في التشبيه بلغت مبلغا كثيرا في العدد وبلغت مبلغا عظيما في تقوية التشبيه وإثبات أن إله العالم يجري مجرى إنسان كبير الجثة عظيم الأعضاء وخرجت عن أن تكون قابلة للتأويل ولما كان القائل بالتشبيه جاهلا بربه والجاهل بربه يمتنع أن يكون رسولا حقا من عند الله علمنا أن أكثر هذه الروايات أباطيل وأضاليل وأن منصب الرسالة منزه عنه".

ثم يعتقد الرازي - بدون دليل شرعي أو حتى عقلي - أن إثبات الصفات طعن في ذات الله تعالى، ثم يقول: "فثبت بمجموع هذه الوجوه أن أخبار الآحاد ضعيفة لا تفيد إلا الظن".

ولنا أن نتسائل: ما الذي دفع الرازي إلى القول بأن إثبات الصفات تنقص لله تعالى! والجواب: أنه أخذ هذا المعتقد عن ظنون أرسطو وملاحدة اليونان، إذ يستحيل أن يعتقد إنسان سوي مثل هذا الاعتقاد، ما لم يفسد عقله من جهة خارجية، وسوف نثبت في الفصل القادم، مخالفة الأشاعرة للعقل الذي يزعمون الاحتجاج به.

أما الآيات القرآنية، فمع صراحتها، إلا أنهم جهدوا لتحريف معاني تلك الآيات ليتسنى لهم إقناع من لم يرد الله به خيراً، بأن القرآن لا يتعارض مع مذهبهم، وهذا منهم تلبيس وتدليس، ومكر لا يحيق إلا بهم.

ولذلك قعدوا قواعد خبيثة كقولهم أن القرآن ليس هدى في معرفة الله وصفاته وفي إثبات النبؤات، وأن الأخذ بظاهره كذب، وانظر كيف أنهم يخصصون بكون القرآن ليس هدى في مسألة واحدة فقط وهي: صفات الله وإثبات النبؤات، مع أنهم كذبوا في ذلك، فالله وصف نفسه بأوضح العبارات، وأثبت نبوءة نبيه بأقوى الحجج، مما يدل على أن ما يدعونه من أن إثبات الصفات لله تعالى تنقص له، ما هو إلا كذب ودجل، ومخالفة ومعارضة لكلام الله وكلام رسوله صلى الله عليه وسلم.

وهم في تقديمهم للعقل على النقل، وافقوا الملاحدة الدهرية، الذين يرون الحجة المطلقة في العقل، ولا حجة في غيره.

فحقيقة هؤلاء المتكلمين أنهم ملاحدة في دثار مسلمين.

ونعطي من كلام علماءهم ما يثبت هذه التهمة عليهم، وإن كانوا لا يخجلون من التصريح بها، واعتقاد أنها الحق الذي يجب أن يعتقد به، فكلام الله وكلام رسوله ليس عند هؤلاء القوم بشيء، وإنما الحجة والبيان والهدى والشفاء والقوة والمتانة في الظنون والأوهام التي أسسها لهم ملاحدة اليونان.

فيقول عبدالقاهر البغدادي الأشعري المتوفى سنة 429هـ في كتب أصول الدين - أي: دين المتكلمين - في شروط قبول خبر الآحاد: "والشرط الثالث: أن يكون متن الخبر مما يجوز في العقل كونه فإن روى الراوي ما يحيله العقل، ولم يحتمل تأويلاً صحيحا فخبره مردود .. وإن كان ما رواه الراوي الثقة يروع ظاهره في العقول ولكنه يحتمل تأويلاً يوافق قضايا العقول قبلنا روايته وتأولناه على موافقة العقول".

ويقول أبو المعالي الجويني المتوفى سنة 478هـ في كتاب الإرشاد وهو والله كتاب الإضلال، باب القول في السمعيات: "اعلموا: وفقكم الله تعالى أن أصول العقائد تنقسم إلى ما يدرك عقلاً، ولا يسوغ تقدير إدراكه سمعاً، وإلى ما يدرك سمعاً، ولا يتقدر إدراكه عقلاً، وإلى ما يجوز إدراكه سمعاً وعقلاً .. فإذا ثبتت هذه المقدمة، فيتعين بعدها على كل معتن بالدين واثق بعقله أن ينظر فيما تعلقت به الأدلة السمعية، فإن صادفه غير مستحيل في العقل، وكانت الأدلة السمعية قاطعة في طرقها، لا مجال للاحتمال في ثبوت أصولها ولا في تأويلها، فما هذا سبيله فلا وجه إلا القطع به، وإن لم تثبت الأدلة السمعية بطرق قاطعة، ولم يكن مضمونها مستحيلاً في العقل، وثبتت أصولها قطعاً، ولكن طريق التأويل يجول فيها، فلا سبيل إلى القطع، ولكن المتدين يغلب على ظنه ثبوت ما دل الدليل السمعي على ثبوته وإن لم يكن قاطعاً،وإن كان مضمون الشرع المتصل بنا مخالفاً العقل، فهو مردود قطعاً بأن الشرع لا يخالف العقل، ولا يتصور في هذا القسم ثبوت سمع قاطع".

وقال: "وليس يتحتم علينا أن نتأول كل حديث مختلف، كيف وقد بينا أن ما يصح في الصحاح من الآحاد لا يلزم تأويله، إلا أن نخوض فيه مسامحين، فإنه إنما يجب تأويل ما لو كان نصاً لأوجب العلم".

وقال أبو حامد الغزالي المتوفى سنة 505هـ بعد أن قسم ما لا يعلم بالضرورة إلى: ما يعلم بدليل العقل دون الشرع. وإلى ما يعلم بالشرع دون العقل، وإلى ما يعلم بهما: "ثم كلما ورد السمع به ينظر: فإن كان العقل مجوزاً له، وجب التصديق به قطعاً، إن كانت الأدلة السمعية قاطعة في متنها ومستندها لا يتطرق إليها احتمال، وأما ما قضى العقل باستحالته، فيجب تأويل ما ورد السمع به، ولا يتصور أن يشمل السمع على قاطع مخالف للمعقول، وظواهر أحاديث التشبيه أكثرها غير صحيحة، والصحيح منها ليس بقاطع، بل هو قابل للتأويل، فإن توقف العقل في شيء من ذلك فلم يقض فيه باستحالة ولا جواز، وجب التصديق أيضاً لأدلة السمع، فيكفي في وجوب التصديق انفكاك العقل عن القضاء بالإحالة، وليس يشترط اشتماله على القضاء بالجواز".

وقال الرازي المتوفى سنة 606هـ في كتابه اساس التقديس: "الفصل الثاني والثلاثون: في أن البراهين العقلية إذا صارت معارضة بالظواهر النقلية فكيف يكون الحال فيها؟ اعلم أن الدلائل القطعية إذا قامت على ثبوت شيء، ثم وجدنا أدلة نقلية يشعر ظاهرها بخلاف ذلك، فهناك لا يخلو الحال من أحد أمور أربعة: إما أن يصدق مقتضى العقل والنقل. فيلزم تصديق النقيضين وهو محال. وإما أن يبطل، فيلزم تكذيب النقيضين وهو محال. وإما أن يصدق الظواهر النقلية، ويكذب الظواهر العقلية، وذلك باطل؛ لأنه لا يمكننا أن نعرف صحة الظواهر النقلية، إلا إذا عرفنا بدلائل العقلية إثبات الصانع وصفاته. وكيفية دلالة المعجزة على صدق الرسول صلى الله عليه وسلم، وظهور المعجزات على محمد صلى الله عليه وسلم، ولو جوزنا القدح في الدلائل العقلية، صار العقل متهماً غير مقبول القول، ولو كان كذلك لخرج أن يكون مقبول القول في هذه الأصول، وإذا لم تثبت هذه الأصول خرجت الدلائل النقلية عن كونها مفيدة، فثبت أن القدح في العقل لتصحيح النقل، يفضي إلى القدح في العقل والنقل معاً، وأنه باطل. ولما بطلت الأقسام الأربعة، لم يبق إلا أن يقطع بمقتضى الدلائل العقلية القاطعة بأن هذه الدلائل النقلية إما أن يقال: إنها غير صحيحة. أو يقال: إنها صحيحة إلا أن المراد منها غير ظواهرها، ثم إن جوزنا التأويل واشتغلنا به على سبيل التبرع بذكر تلك التأويلات على التفصيل، وإن لم يجز التأويل فوضنا العلم بها إلى الله تعالى. فهذا هو القانون الكلي المرجوع إليه في جميع المتشابهات" اهـ

وهذه مجرد أمثله، وإلا فتقديم العقل على النقل محل إجماع من القوم.

قلت: وانظر كيف أن اهتمامهم منصب إلى التأكيد على بطلان أحاديث الصفات كل ما تكلموا عن حجية العقل، لتعلم أن هؤلاء القوم لم يجدوا ما يخالف فلسفة ملاحدة اليونان إلا ما ورد في باب صفات الله تعالى، لذلك فهم يجهدون لإبطالها، ويؤسسون القواعد والأصول لردها والتكذيب بها، بلباس شرعي زعموا!!

إذا فالعقل عند هؤلاء القوم حاكمٌ وليس بمحكوم، وبطلان قولهم من أوضح ما يكون:

أولها: أن القوم إنما قدموا الاحتجاج بالعقل لا لشيء إلا لأنهم وجدوا أن الأحاديث التي وردت في الصفات جاءت متعارضة مع فرضيات ملاحدة اليونان في تصورهم للذات الإلهية.

وثانيها: أن هذا الادعاء لا دليل عليه من الشرع أصلاً، وإنما هي قواعد وأسس وفرضيات، يختلقونها من أمهات رؤوسهم، ليبنوا عليها دينهم، نعوذ بالله من حالهم.

وثالثها: أن الله تبارك وتعالى جعل لعقل العباد حدود في المعرفة لا يتجاوزها، والله تبارك وتعالى هو من سن نواميس هذا الكون، وهو سبحانه القادر على ابطالها، فحججهم العقلية، هي في الحقيقة قائمة على أقيسة عقلية، بحيث يقوم المتفلسف بقياس العالم الشاهد بالعالم الغائب، ثم بناء تصوّر يرتكز في معلوماته على العالم المشاهد!

فمن يثبت لهم أن العالم العلوي له نفس النواميس التي يسير عليها العالم السفلي!

وحتى نبطل احتجاجهم بالعقل، نقول: قد جرت العادة أن المياه تنسكب من أعلى إلى أسفل، فبالعقل لا يمكن أن تنسكب المياه من أسفل إلى أعلى، ومع ذلك توجد مناطق في الأرض، ينسكب فيها الماء من أسفل إلى أعلى! وهذا مخالف للعقل تماماً، وهذا يجري في كوننا الذي نعيش فيه، والذي يقوم هؤلاء الحمقى بقياس كل شيء عليه، فكيف بالعالم العلوي ونواميسه التي لم نطلع عليها ولم نشاهدها، ثم كيف بالله تعالى وتقدس، الذي هو خالق الكونين العلوي والسفلي، وخالق نواميسها!!!

فثبت من خلال ما سبق، أن العقل له حدود في المعرفة، لا يتجاوزها، فكيف يكون ما يصدر عن هذا العقل من حجج واستنتاجات قطعية الدلالة!

رابعها: أن القوم بالكاد يتفقون على حجة واحدة! هذا وهم يدعون أن الحجج العقلية قطعية الدلالة، تفيد اليقين! فلو كانت حججهم العقلية قطعية الدلالة وتفيد اليقين كما يزعمون لما اختلفوا، ولكن كل طائفة منهم عندها حجج عقلية واستنتاجات تخالف الأخرى، وترد عليها! 

فالمعتزلة ينكرون الصفات جميعاً، ويجعلون ما ورد من ذكر الصفات في القرآن، مجرد اسماء بلا معاني!

وأما الأشاعرة ففي أول الأمر أثبتوا الصفات الذاتية وجحدوا الصفات الاختيارية، فخالفوا حجج المعتزلة العقلية، بناء على حججهم العقلية الخاصة بهم.

ولكن يبدوا أن إثبات جميع الصفات الذاتيّة لم يرق لبعضهم، فخالفهم بناء على حججه العقلية، فنفى جميع الصفات، ولم يثبت سوى سبع صفات.

ولكن أيضا هذا لم يرق لبعضهم، فحججه العقلية جعلته يستنتج أن الصفات التي يجب أن تثبت خمسة فقط، وأخر اعترض، وقال بأن حججه العقلية جعلته يستنتج أن الصفات التي يجب أن تثبت ثمان، وأخر ذهب إلى أنها اثنى عشر، وأخر إلى أنها ثلاثة عشر، وأخر إلى أنها عشرين .. الخ

فكيف يكون العقل حجة بعد هذا، وكيف تكون حججهم العقلية قطعية الدلالة وتفيد اليقين، وهم يرون أنفسهم لا يتفقون على شيء من هذه الحجج والاستنتاجات.

فهؤلاء القوم في الحقيقة في أمر مريج، وهذا سبيل من أعرض عن الكتاب والسنة وأقبل على الفلسفة والكلام والتكلف والتشدق والتفيهق والتقعر، فإنه لا يزال في حيرة حتى يلقيه الله تعالى في نار جهنم إن شاء الله.