ثم برزت طائفة من المبتدعة، حاولت الجمع بين مذهب الجهميّة ومذهب أهل الحديث، فأنتجت ديناً مشوهاً، وهم الكُلَّابية، نسبة إلى عبد الله بن سعيد بن كُلَّاب القطان البصري المتوفى سنة 241هـ.
وملخص عقيدته أنه قسم صفات الله تعالى إلى قسمين: ذاتية، وفعلية اختيارية.
والذاتية هي: الحياة والنفس والوجه والعينان واليدان والساقان والقدمان، والسمع والبصر والقدرة والإرادة والمشيئة، وما تتضمنه الصفات النفسية من صفات: كالرضى والغضب والسخط والرحمة، وأن الله عال على خلقه علواً حقيقياً، أي: أنه أثبت لله الجهة والحيّز والانفصال عن خلقه.
وكان يقول: بأن الله حيّ بحياة، سميع بسمع، بصير ببصر، قدير بقدرة، مريد بإرادة، شاءٍ بمشيئة، رحيم برحمة.
فخالف المعتزلة في الإقرار بهذه الصفات، كون المعتزلة ينكرونها، ويزعمون أنها مخلوقات لله.
وأما الصفات الفعلية الاختيارية، فهي الصفات التي تقع بمشيئة الله تعالى، كالحركة والكلام بصوت والضحك والخلق والإحياء والإماتة والاستواء على العرش ونحو ذلك، فزعم أن كل صفة تقع بمشيئة الله، فهي مخلوقة!
فوافق المعتزلة، في أن هذه الصفات مخلوقات لله تعالى، وليس صفاتٍ له.
ولا تسأل ابن كلّاب عن الدليل على ما ذكر، لأنه ما من دليل شرعي على ذلك، ولا حتى عقلي، بل هو رأيٌ رآه، واعتباط اعتبطه، على غير هدى من الله تعالى ولا رسوله ولا حجّة عقليّة مقنعة.
ويقول: بأن الله متكلم بكلام، ولكنه زعم أن الكلام نفسي، أي: أن الله لا يتكلم بصوت، لأن الكلام بصوت فعل، والأفعال من الصفات الاختيارية، فقسّم الكلام إلى قسمين: نفسي ولفظي، وهو تقسيم لا تعرفه العرب من كلامها، فالكلام عند العرب لا يكون إلا لفظاً، وأما ما يختلج في النفس، فيطلقون عليه: حديث نفس، ولا يسمونه كلام.
ولذلك لما نوقش في القرآن قال: القرآن قائم بالذات بلا قدرة ولا مشيئة، وبناء على ذلك زعم ابن كلاب أن الله تعالى لا يستطيع التكلم بمشيئته، وهو يريد بذلك الكلام النفسي حسب زعمه، وأن كلامه هو معنى واحد قديم قائم بذاته تعالى، إن عبر عنه بالعربية كان قرآناً، وإن عبر عنه بالعبرية كان توراةً، وإن عبر عنه بالسريانية كان إنجيلاً، وزعم أيضاً أن القرآن المنزل ليس هو بحرف ولا بصوت، وليس هو كلام الله حقيقة، وإنما هو حكاية وعبارة عنه لا عينه.
وزعمه هذا لم يسبقه إليه أحد من المسلمين، وليس عليه دليل من كتاب الله ولا من سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وإنما أخذ ذلك عن رجل من فلاسفة النصارى، يدعى: يوحنا الدمشقي (توفي 132هـ) أو لنقل بأن ابن كلاب ويوحنا كلاهما استقى قوله من كلام الفلاسفة الملاحدة.
إلّا أن أقدم من عرف عنه هذا التقسيم، هو يوحنّا الدمشقي، وكان كاهناً من كهنة النصارى " انظروا كتاب: يوحنّا الدمشقي آراءه اللاهوتيّة ومسائل علم الكلام، حقّق سيرته وعلّق عليها: الدكتور كمال اليازجي".