أول من ذكر أنه خاض في الكلام والفلسفة، وأنكر صفات الباري سبحانه وتعالى، من المنتسبين إلى الإسلام، هو الجعد بن درهم.
قال الذهبي في السِيَر: "مؤدب مروان الحمار، هو أول من ابتدع بأن الله ما اتخذ إبراهيم خليلا، ولا كلم موسى، وأن ذلك لا يجوز على الله. قال المدائني: كان زنديقا. وقد قال له وهب: إني لأظنك من الهالكين، لو لم يخبرنا الله أن له يدا، وأن له عينا ما قلنا ذلك. ثم لم يلبث الجعد أن صلب". اهـ
قلت: مروان الحمار، هو أخر خلفاء بني أميّة.
قال الذهبي في تاريخ الإسلام: "مؤدب مروان بن محمد الحمار، ولهذا يقال له: مروان الجعدي. كان الجعد أول من تفوه بأن الله لا يتكلم، وقد هرب من الشام. ويقال: إن الجهم بن صفوان أخذ عنه مقالة خلق القرآن، وأصله من حران. فبلغنا عن عقيل بن معقل بن منبه قال: وقف الجعد على وهب بن منبه، فجعل يسأله عن الصفة، فقال: يا جعد، ويلك! أنقص من المسألة، إني لأظنك من الهالكين، لو لم يخبرنا الله في كتابه أن له يدا ما قلنا ذلك، وأن له عينا ما قلنا ذلك، ثم لم يلبث الجعد أن صلب. قال أبو الحسن المدائني: كان الجعد زنديقا. ويروى أن خالد بن عبد الله القسري خطب الناس يوم الأضحى بواسط، وقال: ضحوا يقبل الله ضحاياكم، فإني مضح بالجعد بن درهم؛ إنه زعم أن الله لم يتخذ إبراهيم خليلا، ولم يكلم موسى تكليما، ثم نزل فذبحه. وهذه قصة مشهورة رواها قتيبة بن سعيد، والحسن بن الصباح، وعثمان بن سعيد الدارمي، عن ابن أبي سفيان المعمري". اهـ
قلت: لم يروه قتيبة بن سعيد عن المعمري، بل سمعه من القاسم بن محمد.
قال علي بن عساكر الأشعري الجهمي، في كتابه تاريخ دمشق: "أصله من خراسان، ويقال إنه من موالي بني مروان، سكن الجعد دمشق، كانت له بها دار بالقرب من القلانسيين إلى جانب الكنيسة، أول من قال بخلق القرآن. كان يسكن دمشق، وله بها دار، وهو الذي ينسب إليه مروان ابن محمد، لأنه كان معلمه. وقيل إنه كان من أهل حران، هو الذي قتله خالد بن عبد الله القسري بالكوفة يوم الأضحى، وكان أول من أظهر القول بخلق القرآن في أمة محمد، فطلبه بنو أمية فهرب من دمشق وسكن الكوفة، ومنه تعلم الجهم بن صفوان بالكوفة خلق القرآن، وهو الذي تنسب الجهمية إليه، وقتله سلم بن أحوز بأصبهان. سئل أبو إسحاق إبراهيم بن محمد الغسيلي: من أين كان جهم؟ قال: من ترمذ، وكان يذهب في بدء أمره، ثم صار صاحب جيش الحارث بن سريج بمرو، فقتله سلم بن أحوز في المعركة وقبره بمرو. وسئل: ممن أخذ ابن أبي دؤاد؟ فقال: من بشر المريسي، وبشر المريسي أخذه من جهم بن صفوان، وأخذه جهم من الجعد بن درهم، وأخذه جعد بن درهم من أبان بن سمعان، وأخذه أبان من طالوت ابن أخت لبيد وختنه، وأخذه طالوت من لبيد بن أعصم، اليهودي الذي سحر النبي صلى الله عليه وسلم. وكان لبيد يقرأ القرآن، وكان يقول بخلق التوراة، وأول من صنف في ذلك طالوت، وكان طالوت زنديقا وأفشى الزندقة، ثم أظهره جعد بن درهم، فقتله خالد بن عبد الله القسري يوم الأضحى بالكوفة، وكان خالد واليا عليها، أتي به في الوثاق حتى صلى وخطب، ثم قال في آخر خطبته: انصرفوا وضحوا تقبل الله منا ومنكم، فإني أريد أن أضحي اليوم بالجعد بن درهم، فإنه يقول ما كلم الله موسى تكليما، ولا اتخذ إبراهيم خليلا، تعالى الله عما يقول الجعد بن درهم علوا كبيرا، ثم نزل وحز رأسه بيده بالسكين". اهـ
قلت: وابن أبي دؤاد هو أحمد بن أبي دؤاد، وزير المأمون، الخليفة العباسي، وهذا يدل على أن الجعد بن درهم لما قدم دمشق، نزل في حيٍّ للنصارى، بدلالة نزوله بالقرب من كنيستهم، ولعله كان تأثر بجيرانه من النصارى، حيث أن الفلسفة اليونانية قد أثرت في النصرانية ومن قبلها اليهودية والصابئة، أثراً بالغا، وكما هو معلوم، فإن التعطيل دين اليهود والصابئة والنصارى، أخذه اليهود والصابئة والنصارى عن فلاسفة الإغريق، وإن كانت كتبهم ظاهرها القول بإثبات الصفات لله عزّ وجلّ.والفلاسفة هم أساس الداء، ومنبع البلاء. والعجيب أن علي بن عساكر ينقل هذا الخبر في الجعد وهو على دينه، وإنما يُظهر البراءة منه، لأن بينهما اختلاف في مسائل يسيرة في باب الصفات، ومن هنا استحلّ ذمّه!
وقال الإمام البخاري في التاريخ الكبير: قال لنا قتيبة، حدثنا القاسم بن محمد قال: حدثني عبدالرحمن بن محمد، عن أبيه، عن جدّه، قال: "شهدت خالد بن عبد الله القسري يخطب يوم النحر، فقال: من كان منكم يريد أن يضحي فلينطلق فليضح، فبارك الله في أضحيته، فإن مضح بالجعد بن درهم، زعم أن الله لم يكلم موسى تكليما، ولم يتخذ إبراهيم خليلا، سبحانه عمّا يقول الجعد علواً كبيرا ثم نزل فذبحه".
وهذا الخبر وإن لم يصح من جهة السند، إلا أن شهرته في زمانهم، تغني عن سنده، وبما أنه لا يوجد خبر يطعن في صحة هذا الخبر، فلا يوجد خبر أخر يعارضه، فهو كما جاء.