كان قدماء الأشاعرة لا يستحون من إبراز بعض مذاهبهم الكفرية ظنا منهم أنها لا تقدح في المذهب فمن ذلك قولهم بأن النبي لم يعد نبيا بعد موته وسبب قولهم ذلك ظنهم أن العرض - والعرض كل ما هو مخلوق - لا يبقى زمانين! وهذه القاعدة لا دليل عليها من كتاب الله ولا من سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم وإنما هي ظنون جرهم إلى القول بها اللجاجة أثناء مناظرتهم للمعتزلة وهذه ثمرة مخالفت الكتاب والسنة عياذا بالله من هذا الضلال
قال أبو محمد ابن حزم الظاهري وهو من كبار أئمة الجهمية في كتابه الفصل في الملل والأهواء والنحل: "حديث فرقة مبتدعة تزعم أن محمد بن عبد الله بن عبد المطلب ﷺ ليس هو الآن رسول الله ﷺ ولكنه كان رسول الله ﷺ وهذا قول ذهب إليه الأشعرية وأخبرني سليمان بن خلف الباجي وهو من مقدميهم اليوم أن محمد بن الحسن بن فورك الأصبهاني على هذه المسئلة قتله بالسم محمود ابن سبكتكين صاحب ما دون وراء النهر من خراسان رحمه الله وهذه مقالة خبيثة مخالفة لله تعالى ولرسوله ﷺ ولما أجمع عليه جميع أهل الإسلام مذ كان الإسلام إلى يوم القيامة وإنما حملهم على هذا قولهم الفاسد أن الروح عرض والعرض يفنى أبداً ويحدث ولا يبقى وقتين فروح النبي ﷺ عندهم قد فنيت وبطلت ولا روح له الآن عند الله تعالى وأما جسده ففي قبره موات فبطلت نبوته بذلك ورسالته ونعوذ بالله من هذا القول فإنه كفر صراح لا ترداد فيه ويكفي من بطلان هذا القول الفاحش الفظيع أنه مخالف لما أمر الله عز وجل به ورسوله ﷺ واتفق عليه جميع أهل الإسلام من كل فرقة وكل نحلة من الأذان في الصوامع كل يوم خمس مرات في كل قرية من شرق الأرض إلى غربها بأعلى أصواتهم قد قرنه الله تعالى بذكره أشهد أن لا إله إلا الله أشهد أن محمداً رسول الله فعلى قول هؤلاء الموكلين إلى أنفسهم يكون الآذان كذباً ويكون من أمر به كاذباً وإنما كان يجب أن يكون الأذان على قولهم أشهد أن محمداً كان رسول الله وإلا فمن أخبر عن شيء كان وبطل أنه كائن الآن فهو كاذب فالأذان كذب على قولهم وهذا كفر مجرد" اهـ
وقال ابن خلدون أثناء حديثه عن الباقلاني على سبيل المدح والإطراء! في مقدمته: "وكثر أتباع الشّيخ أبي الحسن الأشعريّ واقتفى طريقته من بعده تلميذه كابن مجاهد وغيره. وأخذ عنهم القاضي أبو بكر الباقلانيّ فتصدّر للإمامة في طريقتهم وهذّبها ووضع المقدّمات العقليّة الّتي تتوقّف عليها الأدلّة والأنظار وذلك مثل إثبات الجوهر الفرد والخلاء. وأنّ العرض لا يقوم بالعرض وأنّه لا يبقى زمانين. وأمثال ذلك ممّا تتوقّف عليه أدلّتهم" اهـ
وقال ابن قيّم الجوزية في كتابه الروح: "وَأما قَول من قَالَ مستقرها الْعَدَم الْمَحْض فَهَذَا قَول من قَالَ إِنَّهَا عرض من أَعْرَاض الْبدن وَهُوَ الْحَيَاة وَهَذَا قَول ابْن الباقلانى وَمن تبعه وَكَذَلِكَ قَالَ أَبُو الْهُذيْل العلاف النَّفس عرض من الْأَعْرَاض وَلم يُعينهُ بِأَنَّهُ الْحَيَاة كَمَا عينه ابْن الباقلانى ثمَّ قَالَ هِيَ عرض كَسَائِر أَعْرَاض الْجِسْم وَهَؤُلَاء عِنْدهم أَن الْجِسْم إِذا مَاتَ عدمت روحه كَمَا تقدم وَسَائِر أعراضه الْمَشْرُوطَة بِالْحَيَاةِ وَمن يَقُول مِنْهُم أَن الْعرض لَا يبْقى زمانين كَمَا يَقُوله أَكثر الأشعرية فَمن قَوْلهم إِن روح الْإِنْسَان الْآن هِيَ غير روحه قبل وَهُوَ لَا يَنْفَكّ يحدث لَهُ روح ثمَّ تغير ثمَّ روح ثمَّ تغير هَكَذَا أبدا فيبدل لَهُ ألف روح فَأكْثر فِي مِقْدَار سَاعَة من الزَّمَان فَمَا دونهَا فَإِذا مَاتَ فَلَا روح تصعد إِلَى السَّمَاء وتعود إِلَى الْقَبْر وتقبضها الْمَلَائِكَة ويستفتحون لَهَا أَبْوَاب السَّمَوَات وَلَا تنعم وَلَا تعذب وَإِنَّمَا ينعم ويعذب الْجَسَد إِذا شَاءَ الله تنعيمه أَو تعذيبه رد إِلَيْهِ الْحَيَاة فِي وَقت يُرِيد نعيمه أَو عَذَابه وَإِلَّا فَلَا أَرْوَاح هُنَاكَ قَائِمَة بِنَفسِهَا الْبَتَّةَ وَقَالَ بعض أَرْبَاب هَذَا القَوْل ترد الْحَيَاة إِلَى عجب الذَّنب فَهُوَ الَّذِي يعذب وينعم وَحسب وَهَذَا قَول يردهُ الْكتاب وَالسّنة وَإِجْمَاع الصَّحَابَة وأدلة الْعُقُول والفطن والفطرة وَهُوَ قَول من لم يعرف روحه فضلا عَن روح غَيره وَقد خَاطب الله سُبْحَانَهُ النَّفس بِالرُّجُوعِ وَالدُّخُول وَالْخُرُوج ودلت النُّصُوص الصَّحِيحَة للصريحة على أَنَّهَا تصعد وتنزل وتقبض وَتمسك وَترسل وتستفتح لَهَا أَبْوَاب السَّمَاء وتسجد وتتكلم وَأَنَّهَا تخرج تسيل كَمَا تسيل القطرة وتكفن وتحنط فِي أكفان الْجنَّة وَالنَّار وَأَن ملك الْمَوْت يَأْخُذهَا بِيَدِهِ ثمَّ تتناولها الْمَلَائِكَة من يَده ويشم لَهَا كأطيب نفحة مسك أَو أنتن جيفة وتشيع من سَمَاء إِلَى سَمَاء ثمَّ تُعَاد إِلَى الأَرْض مَعَ الْمَلَائِكَة وَأَنَّهَا إِذا خرجت تبعها الْبَصَر بِحَيْثُ يَرَاهَا وَهِي خَارِجَة وَدلّ الْقُرْآن على أَنَّهَا تنْتَقل من مَكَان إِلَى مَكَان حَتَّى تبلغ الْحُلْقُوم فِي حركتها وَجَمِيع مَا ذكرنَا من جمع الْأَدِلَّة الدَّالَّة على تلاقى الْأَرْوَاح وتعارفها وَأَنَّهَا أجناد مجندة إِلَى غير ذَلِك تبطل هَذَا القَوْل وَقد شَاهد النَّبِي الْأَرْوَاح لَيْلَة الْإِسْرَاء عَن يَمِين آدم وشماله وَأخْبر النَّبِي إِن نسمَة الْمُؤمن طَائِر يعلق فِي شجر الْجنَّة وَأَن أَرْوَاح الشُّهَدَاء فِي حواصل طير خضر وَأخْبر تَعَالَى عَن أَرْوَاح آل فِرْعَوْن أَنَّهَا تعرض على النَّار غدوا وعشيا وَلما أورد ذَلِك على ابْن الباقلانى لج فِي الْجَواب وَقَالَ يخرج على هَذَا أحد وَجْهَيْن إِمَّا بِأَن يوضع عرض من الْحَيَاة فِي أول جُزْء من أَجزَاء الْجِسْم وَإِمَّا أَن يخلق لتِلْك الْحَيَاة وَالنَّعِيم وَالْعَذَاب جَسَد آخر وَهَذَا قَول فِي غَايَة الْفساد من وُجُوه كَثِيرَة أَي قَول أفسد من قَول من يَجْعَل روح الْإِنْسَان عرضا من الْأَعْرَاض تتبدل كل سَاعَة الوفا من المرات فَإِذا فَارقه هَذَا الْعرض لم يكن بعد الْمُفَارقَة روح تنعم وَلَا تعذب وَلَا تصعد وَلَا تنزل وَلَا تمسك وَلَا ترسل فَهَذَا قَولمُخَالف لِلْعَقْلِ ونصوص الْكتاب وَالسّنة والفطرة وَهُوَ قَول من لم يعرف نَفسه .. وَهُوَ قَول لم يقل بِهِ أحد من سلف الْأمة وَلَا من الصَّحَابَة وَالتَّابِعِينَ وَلَا أَئِمَّة الْإِسْلَام" اهـ
وقال ابن طاهر: "وسمعت خادمه أحمد بن أميرجه يقول : حضرت مع الشيخ للسلام على الوزير نظام الملك ، وكان أصحابنا كلفوه الخروج إليه ، وذلك بعد المحنة ورجوعه إلى وطنه من بلخ - يعني أنه كان قد غرب - قال : فلما دخل عليه أكرمه وبجله ، وكان هناك أئمة من الفريقين ، فاتفقوا على أن يسألوه بين يدي الوزير ، فقال العلوي الدبوسي : يأذن الشيخ الإمام أن أسأل ؟ قال : سل . قال : لم تلعن أبا الحسن الأشعري ؟ فسكت الشيخ ، وأطرق الوزير ، فلما كان بعد ساعة ; قال الوزير : أجبه . فقال : لا أعرف أبا الحسن ، وإنما ألعن من لم يعتقد أن الله في السماء ، وأن القرآن في المصحف ، ويقول : إن النبي - صلى الله عليه وسلم - اليوم ليس بنبي . ثم قام وانصرف فلم يمكن أحدا أن يتكلم من هيبته ، فقال الوزير للسائل : هذا أردتم ! أن نسمع ما كان يذكره بهراة بأذاننا ، وما عسى أن أفعل به ؟ ثم بعث إليه بصلة وخلع ، فلم يقبلها ، وسافر من فوره إلى هراة" انتهى
كل هذه الروايات تفيد بأن القول بأن العرض لا يبقى زمانين وأن النبي لم يعد نبيا بعد موته هو معتقد أصيل في المذهب الأشعري.
هذا ما كان يظهره متقدموهم، أما متأخروهم، فقد انقسموا حول هذه العقيدة إلى قسمين:
قسم لزم الصمت، فلم يبدي موافقة أو اعتراضا، وإن كان بعضهم أخذ يثني على هذه القاعدة الظنيّة الكاذبة، وهي قولهم: العرض لا يبقى زمانين، دون الإشارة إلى لوازمها من إنكار نبوة النبي صلى الله عليه وسلم بعد موته.
وأظن أن السبب في ذلك، أنه لما ظهر قبح هذه المقالة وشناعتها، ولأن قلوب العامة من الناس تنفر منها، سكتت هذه عن المجاهرة بها وأهملوها مطلقاً، ولو كانوا ينكرونها لأنكروها في كتبهم.
ويدلك هذا على أن ابن خلدون وهو من متأخريهم ذكر أن من مناقب الباقلاني هو تقريره بأن العرض لا يبقى زمانين فجعلها منقبة من مناقبة التي يشكر عليها ويثنى عليه بها!
وانظر أيضا كيف أن ابن القيم ذكر ذلك عن الباقلاني ولم يتبرأ أحد من الأشاعرة في زمان ابن القيم من هذا القول أو استنكره بل سكتوا عنه فلم يردوه كل هذا يثبت أن القوم باقون على منهج أسلافهم في إنكار نبوة النبي محمد بعد موته وأنه اليوم ليس نبياً وإنما سكتوا عن التسويق لهذا الكفر مخافة أن ينفر الناس عنهم
وقسم استنكرها، وأعلن البراءة منها، وربما كان ذلك بسبب اختلاط الأشعرية بالصوفية، والصوفية عندهم غلو في النبي وآل بيته خاصة، وإن كان غلوا زائفا، أي: مجرد مشاعر وأحاسيس لا يتبعها اقتداء أو اهتداء، بل هو أشبه بالتظاهر والإدعاء، فلم يكونوا ليقبلوا هذا القول، زد على ذلك أن الأشاعرة المتصوفة كونهم أجازوا دعاء النبي من دون الله تعالى، كان يجب عليهم أن يلغوا هذا المعتقد، إذ لا يعقل أنهم سوف يتوجهون بالدعاء أو التوسل والاستشفاع برجل لم يعد نبيا، بل أصبح رجلا عاديا شأنه شأن أي رجل أخر، وقس على ذلك حال الأولياء والمشايخ، فيجب إثبات الولاية لهم بعد موتهم، وإلّا فكيف سوف يأمرون الناس بإشراكهم مع الله! لذلك تم إقصاء هذه العقيدة عند الصوفية لحاجتهم لإثبات نبوّة النبي بعد موته، وإثبات الولاية لمشايخهم بعد موتهم، ليقرروا للناس الشرك بهم.
ولو سألتهم ما دليلكم على أن العرض لا يبقى زمانين لم تجد عند القوم دليلا فليس هناك نص في كتاب الله ولا سنة رسول الله ولا حتى بالأدلة العلميّة، على أن العرض لا يبقى زمانين وهم لا يعلمون الغيب، وإنما دفعهم لهذا القول وهذا الاعتقاد الجدل والمماراة وحب الظهور والغلبة والانتصار للنفس فابتدعوا هذه القاعدة الكاذبة وجعلوها دينا يدينون به للرد على خصومهم المعتزلة، فسبحان الذي أعمى بصائرهم!