وصف الله تبارك وتعالى بأنه هدى وبينات وفرقان وموعظة وشفاء ورحمة وأطلق سبحانه وتعالى هذه الأوصاف ولم يقيدها فدل ذلك على أنها هدى وبينات وفرقان وموعظة وشفاء ورحمة في كل شيء.
فقال تعالى: (ذَ ٰلِكَ ٱلۡكِتَـٰبُ لَا رَیۡبَۛ فِیهِۛ هُدى لِّلۡمُتَّقِینَ)
وقال تعالى: (إِنَّ ٱلَّذِینَ یَكۡتُمُونَ مَاۤ أَنزَلۡنَا مِنَ ٱلۡبَیِّنَـٰتِ وَٱلۡهُدَىٰ مِنۢ بَعۡدِ مَا بَیَّنَّـٰهُ لِلنَّاسِ فِی ٱلۡكِتَـٰبِ أُو۟لَـٰۤىِٕكَ یَلۡعَنُهُمُ ٱللَّهُ وَیَلۡعَنُهُمُ ٱللَّـٰعِنُونَ)
وقال تعالى: (شَهۡرُ رَمَضَانَ ٱلَّذِیۤ أُنزِلَ فِیهِ ٱلۡقُرۡءَانُ هُدى لِّلنَّاسِ وَبَیِّنَـٰت مِّنَ ٱلۡهُدَىٰ وَٱلۡفُرۡقَانِۚ)
وقال تعالى: (هَـٰذَا بَیَان لِّلنَّاسِ وَهُدى وَمَوۡعِظَة لِّلۡمُتَّقِینَ)
وقال تعالى: (یَـٰۤأَیُّهَا ٱلنَّاسُ قَدۡ جَاۤءَتۡكُم مَّوۡعِظَة مِّن رَّبِّكُمۡ وَشِفَاۤء لِّمَا فِی ٱلصُّدُورِ وَهُدى وَرَحۡمَة لِّلۡمُؤۡمِنِینَ)
إلى غير ذلك من الآيات
لكن علماء الأشاعرة لهم رأي أخر!
فتعالوا نرى ما هو رأي علماء الأشاعرة في القرآن العزيز؟!
قال الصاوي في حاشيته على تفسير الجلالين: "الأخذ بظواهر الكتاب والسنة من أصول الكفر"!
وقال السنوسي الأشعري شيخ الطريقة السنوسية في شرح أم البراهين ما نصه: "أصول الكفر ستة .. ثم ذكر الأصل السادس فقال: التمسك في أصول العقائد بظواهر الكتاب والسنة" اهـ
قال الرازي في تفسيره :"قال الرازي في تفسيره :" السُّؤَالُ الثَّالِثُ: كُلُّ مَا يَتَوَقَّفُ صِحَّةُ كَوْنِ الْقُرْآنِ حُجَّةً عَلَى صِحَّتِهِ لَمْ يَكُنِ الْقُرْآنُ هُدًى فِيهِ، فَإِذَنِ اسْتَحَالَ كَوْنُ الْقُرْآنِ هُدًى فِي مَعْرِفَةِ ذَاتِ اللَّهِ تَعَالَى وَصِفَاتِهِ، وَفِي مَعْرِفَةِ النُّبُوَّةِ، وَلَا شَكَّ أَنَّ هَذِهِ الْمَطَالِبَ أَشْرَفُ الْمَطَالِبِ، فَإِذَا لَمْ يَكُنِ الْقُرْآنُ هُدًى فِيهَا فَكَيْفَ جَعَلَهُ اللَّهُ تَعَالَى هُدًى عَلَى الْإِطْلَاقِ؟ الْجَوَابُ: لَيْسَ مِنْ شَرْطِ كَوْنِهِ هُدًى أَنْ يَكُونَ هُدًى فِي كُلِّ شَيْءٍ، بَلْ يَكْفِي فِيهِ أَنْ يَكُونَ هُدًى فِي بَعْضِ الْأَشْيَاءِ، وَذَلِكَ بِأَنْ يَكُونَ هُدًى فِي تَعْرِيفِ الشَّرَائِعِ، أَوْ يَكُونَ هُدًى فِي تَأْكِيدِ مَا فِي الْعُقُولِ، وَهَذِهِ الْآيَةُ مِنْ أَقْوَى الدَّلَائِلِ عَلَى أَنَّ الْمُطْلَقَ لَا يَقْتَضِي الْعُمُومَ، فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى وَصَفَهُ بِكَوْنِهِ هُدًى مِنْ غَيْرِ تَقْيِيدٍ فِي اللَّفْظِ، مع أَنَّهُ يَسْتَحِيلُ أَنْ يَكُونَ هُدًى فِي إِثْبَاتِ الصَّانِعِ وَصِفَاتِهِ وَإِثْبَاتِ النُّبُوَّةِ، فَثَبَتَ أَنَّ الْمُطْلَقَ لَا يُفِيدُ الْعُمُومَ." انتهى
قلت: فانظر كيف أنه أقر بأن الله وصف القرآن بأنه هدى بإطلاق ولم يقيد هذا الوصف بقيد ثم هو يزعم أن القرآن ليس هدىً في إثبات الله وصفاته وإثبات النبوّة محتجا بكون القرآن لم يأتي بتعريف الشرائع من صلاة وزكاة وصيام وحج وغير ذلك.
وعليه نقول:
أولا: القرآن كتاب هدى في كل شيء وإن لم يأتي بتفصيل الشرائع لكنه لا يدل الإنسان إلا إلى الهدى وأعظم الهدى معرفة الله وصفاته وربوبيته وألوهيته فإذا ضل الإنسان في هذه المسائل لم تنفعه الشرائع وإن ذكرها الله في القرآن.
ثانيا: أن مراد الأشاعرة أن القرآن قد يكون كتاب ضلالة ويهدي إلى الكفر فيكون كتاب هدى في جانب وكتاب ضلالة في جانب أخر لذلك يصرحون أن الاخذ بظاهره كفر كل هذا من أجل أن يتسنى لهم نفي الصفات تقليدا لملاحدة الإغريق وإنكار توحيد الألوهية!
وهذا هو عين التكذيب بالقرآن فإن القرآن كما تقدم كتاب هدى بإطلاق لا يمكن ويستحيل أن يكون كتاب ضلالة أو يهدي الناس إلى الكفر وهذا هو موضع الخلاف بيننا وبين ملاحدة الأشاعرة فحتى لو لم يفصل الله الشرائع في القرآن فهو لا يهدي إلى الكفر والضلالة مطلقاً، بل يهدي إلى الحق والخير، لأنه بيّن ووضح بأوضح بيان العقيدة التي يجب أن يعتقدها العبد قبل العمل، لأن العمل بغير هذه العقيدة لا قيمة له، وهو حابط.
ولكن مع ذلك أقول " صدقوا فيما قالوه " فالله تبارك وتعالى يقول في كتابه العزيز الذي هو هدى ونور وشفاء ورحمة: (وَلَوۡ جَعَلۡنَـٰهُ قُرۡءَانًا أَعۡجَمِیّا لَّقَالُوا۟ لَوۡلَا فُصِّلَتۡ ءَایَـٰتُهُۥۤ ءَا۬عۡجَمِیّ وَعَرَبِیّ قُلۡ هُوَ لِلَّذِینَ ءَامَنُوا۟ هُدى وَشِفَاۤء وَٱلَّذِینَ لَا یُؤۡمِنُونَ فِیۤ ءَاذَانِهِمۡ وَقۡر وَهُوَ عَلَیۡهِمۡ عَمًىۚ أُو۟لَـٰۤىِٕكَ یُنَادَوۡنَ مِن مَّكَانِۭ بَعِید)
قَالَ قَتَادَةُ: عَمُوا عَنِ الْقُرْآنِ وَصُمُّوا عَنْهُ فَلَا يَنْتَفِعُونَ بِهِ.
رواه البغوي في تفسيره.
فكونه عمى على الذين لا يؤمنون، لأنهم هم لا يريدون الحق، فأعماهم الله عن تدبر آيات والإيمان بها، وهذا هو حال ملاحدة الأشاعرة، نسأل الله العفو والعافية.
وكما هي عادة الأشاعرة، فإنهم يبحثون عن أي شيء في القرآن، ليحتجوا به في إثبات عقائدهم، ولكونهم أهل حيل، فإنك إذا سألتهم ما الدليل على أن الاخذ بظواهر الآيات كفر؟ فإنهم لا يذكرون لك شيئاً من آيات الصفات التي لا يجد فيها ذوو الفطر السليمة والعقول النظيفة ما يوجب الحكم على القرآن بهذا الحكم الذي لا يتفوه به من شم رائحة الإسلام، فيعمدون عندئذ إلى البحث عن الآيات المتشابهات، والتي قد تغر بعض الجهلة من الناس، كقوله تعالى: "نسو الله فنسيهم" فيقولون له: الله لا ينسى، لأن النسيان صفة نقص، ومن وصف الله تعالى بشيء من صفات النقص فهو كافر، إذا فظاهر هذه الآية يدل على الكفر، وهذا يعني أن القرآن لا يمكن قبوله على ظاهره، فظاهره يدل على الكفر، ثم يسحبون حكمهم على هذه الآية على جميع آيات الصفات، وبهذا تنطلي حيلتهم على السذّج.
والجواب: من العجائب أن ترى الأشاعرة الذين ما تركوا صفة نقص إلا وألحقوها بذات الله تعالى وتقدس، يكفرون من لم يصف الله تعالى بكمال القدرة على تذكر الأشياء، مع أنهم أنفسهم من لا يقرون بكمال صفة القدرة لله تعالى، إذ يعتقدون أن الله لا يقدر بذاته على شيء سوى على إعطاء الأوامر النفسية، وبعضهم يقول هو قادر على السمع المسموعات وبصر المرئيات، وحتى هذه الصفات يقولون بأنه عاجز عن سمع الأشياء بمشيئته، ورؤية الأشياء بمشيئته، بل هو يسمعها ويراها رغماً عنه وإن لم يشأ ذلك، وهم لا يقولون ذلك تصريحاً، وإنما هذا لازم قولهم، ولا يمكن أن يتم قولهم إلا بذلك، ونفي كمال صفة القدرة كفر، فهم بذلك يكفرون أنفسهم
وأما قوله تعالى: "نسو الله فنسيهم" فليس فيها ما يدل على أن الله تعالى وتقدس عاجز عن تذكر جميع الأشياء، ولكن لو عرضت هذه الآية على صبيٍّ من صبيان العرب، لفهمها أفضل من فهم أكبر علماء الأشاعرة، إذ أنه قد جرت عادة العرب على أنهم إذا أعرضوا عن الشيء إعراض المبغض التارك له، وسئلوا عنه قالوا "نسيناه" لا يعنون به أنهم لم يعد يتذكرونه، بل يريدون بذلك شدّة الترك والإعراض.
وهذا هو مراد الله من هذه الآية، وهو أن الله أعرض عن الكفار وتركهم لبغضه لهم، فالقارئ العربي، بل وحتى العجمي إذا ترجمة الآية إلى لغته ترجمة صحيحة، لا يحتاج إلى فيلسوف أشعري ليبين له معنى هذه الآية، هو يفهمها فهماً جيداً من دون أي تدخل من اي طرف خارجي، بل إن تدخل مفسري الأشاعرة في تأويل هذه الآية، هو من سوف يفسد على القارئ فهم هذه الآية فهماً صحيحاً.
ولو سلمنا أنها من المتشابهات، فنقول: أن المتشابه هو ما كان له معنيان فأكثر، معناً حق ومعناً باطل، فكيف نصل إلى المعنى الصحيح؟ والجواب: نصل إلى المعنى الصحيح من خلال القرآن نفسه، أو من خلال ما صح عن النبي صلى الله عليه وسلم، أو الصحابة، فإن فهم الصحابة لقرآن والسنة، أحكم، لكونهم تلاميذ النبي صلى الله عليه وسلم من جهة، ولكونهم عرباً أقحاحاً من جهة أخرى.
والدليل على ذلك ما روي عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه أنه لما بعث عبدالله بن عباس إلى الخوارج قال: لا تجادلهم بالقرآن، فإنه خصم ذو وجهين، ولكن جادلهم بالسنن، فإن أهل السنن أعلم بكتاب الله، فتم له الغلب عليهم.
وقول الإمام علي "خصم ذو وجهين" أي : أن فيه آيات متشابهات، يكون لها معناً حق ومعناً باطل، فأهل الضلال، يحتجون بمعناه الباطل، ويتركون المعنى الحق، كما قال تعالى: (وأما الذي في قلوبهم زيغ فيتبعون ما تشابه منه ابتغاء الفتنة وابتغاء تأويله) فحتى نعرف المعنى الحق، ونقيم على أهل الضلال الحجة، نرد الآيات المتشابهات إلى المحكم من القرآن، أو إلى سنة النبي صلى الله عليه وسلم، فيبطل ما ذهبوا إليه من معانٍ باطلة، ويخصمون.
لكن الأشاعرة بخلاف ذلك، فبدل أن يردوا الآيات المتشابهات إلى المحكم من القرآن، والسنة، ردّوا القرآن كله والسنة لقواعدهم الكلامية التي ورثوها عن ملاحدة اليونان، فما وافق قواعدهم الكلامية أو لم يتعارض معها أجروه على ظاهره، وما تعارض معها تأولوه حتى يأتي متوافقاً مع قواعدهم الكلامية، وهذا عين الكفر بالقرآن والسنة.
لذلك فقوله تعالى: "نسو الله فنسيهم" يعتبر من المتشابه، لكون النسيان عند العرب له معنيان كما قدمنا، معناه عدم تذكر الشيء ومعناه الأخر هو: الترك. فحتى نعرف ما المعنى الصحيح لهذه الىية نبحث في القرآن وفي السنة، وبعد البحث وجدنا الله تبارك وتعالى يقول: "لا يضل ربي ولا ينسى" فهذه الآية محكمة؛ لأنه لا يوجد تأويل أخر لقوله تعالى "ولا ينسى" إلا أن الله تعالى لا ينسى الأشياء، فهذه الىية محكمة، فنرد الآية السابقة إليها، فيتبين لنا أن معنى قوله تعالى: "نسو الله فنسيهم" إنما أراد تركوا الله فتركهم.