تبني الجهم بن صفوان لمقالة الجعد بن درهم والدعوة إليها

لما هلك الجعد بن درهم، تبنى مقالته الآثمة، الجهم بن صفوان الراسبي، مولاهم، السمرقندي.

قال البخاري في التاريخ الكبير وخلق أفعال العباد: "قال قتيبة - بن سعيد - بلغني أن جهما كَانَ يأخذ هذا الكلام من جعد بْن درهم". اهـ

قال عبدالله بن حنبل في السنّة: حدثني إسماعيل بن عبيد بن أبي كريمة، سمعت يزيد بن هارون، يقول: لعن الله الجهم، ومن قال بقوله كان كافرا جاحدا ترك الصلاة أربعين يوما يزعم أنه يرتاد دينا وذلك أنه شك في الإسلام. قال يزيد: قتله سلم بن أحوز على هذا القول. حدثني محمد بن إسحاق الصاغاني، حدثني يحيى بن أيوب، سمعت أبا نعيم البلخي شجاع بن أبي نصر قال: سمعت رجلا، من أصحاب جهم: كان يقول بقوله وكان خاصا به ثم تركه وجعل يهتف بكفره، قال: رأيت جهما يوما افتتح سورة طه فلما أتى على هذه الآية {الرحمن على العرش استوى} [طه: ٥] قال: لو وجدت السبيل إلى حكها لحككتها، قال: ثم قرأ حتى أتى على آية أخرى فقال: ما كان أظرف محمدا حين قالها، قال: ثم افتتح سورة القصص فلما أتى على ذكر موسى صلوات الله عليه جمع يديه ورجليه ثم دفع المصحف ثم قال: أي شيء هذا، ذكره هاهنا فلم يتم ذكره، وذكره فلم يتم ذكره. حدثت عن أحمد بن نصر، عن علي بن عاصم بن علي، قال: ناظرت جهما فلم يثبت أن في السماء ربا جل ربنا عز وجل وتقدس. اهـ

وقال الذهبي في السِيَر:  الجهم بن صفوان، أبو محرز الراسبي مولاهم السمرقندي. المتكلم الضال رأس الجهمية وأساس البدعة. كان ذا أدب ونظر وذكاء وفكر وجدال ومراء، وكان كاتبا للأمير الحارث بن سريج التميمي الذي توثب على عامل خراسان نصر بن سيار، وكان الجهم ينكر صفات الرب عز وجل وينزههه بزعمه عن الصفات كلها ويقول بخلق القرآن، ويزعم أن الله ليس على العرش بل في كل مكان، فقيل: كان يبطن الزندقة، والله أعلم بحقيقته. وكان هو ومقاتل بن سليمان المفسر بخراسان طرفي نقيض، هذا يبالغ في النفي والتعطيل، ومقاتل يسرف في الإثبات، والتجسيم. ويبدو أن حماس الجهم بن صفوان، فاق حماس معلمه الجعد بن درهم في نشر هذه الفلسفة الإلحادية، وكثر أتباعه ومريديه، حتى عرفوا به، ونسبوا إليه، فقيل لهم: الجهمية.وقال أبو عبد الله بن منده: حدثنا أحمد بن الحسن الأصبهاني بنيسابور، قال: حدثنا عبد الله بن إسحاق النهاوندي قال: سمعت أحمد بن مهدي بن يزيد القافلاني قال: قلت لأحمد بن حنبل: يا أبا عبد الله هؤلاء اللفظية فذكر القصة، ثم قال أحمد بن حنبل: قال لنا علي بن عاصم: ذهبت إلى محمد بن سوقة فقال: ها هنا رجل قد بلغني أنه لم يصل، فمررت معه إليه فقال: يا جهم ما هذا؟ بلغني أنك لا تصلي! قال: نعم. قال: مذ كم؟ قال: مذ تسعة وثلاثين يوما، واليوم أربعين. قال: فلم لا تصلي؟ قال: حتى يتبين لي لمن أصلي، قال: فجهد به ابن سوقة أن يرجع أو أن يتوب أو يقلع، فلم يفعل، فذهب إلى الوالي فأخذه فضرب عنقه وصلبه، ثم قال لنا أحمد بن حنبل: لا يترك الله من يصلي ويصوم له يدع الصلاة عامدا أربعين يوما إلا ويضربه بقارعة. وقال عبد الرحمن بن أبي حاتم: حدثني محمد بن مسلم قال: حدثني عبد العزيز بن منيب قال: حدثنا موسى بن حزام الترمذي قال: حدثنا الأصمعي، عن المعتمر، عن خلاد الطفاوي قال: كان سلم بن أحوز على شرطة نصر بن سيار فقتل جهم بن صفوان لأنه أنكر أن الله كلم موسى. وقال عمر بن مدرك القاص: سمعت مكي بن إبراهيم يقول: ظهر عندنا جهم سنة اثنتين وثلاثين ومائة فرأيته في مسجد بلخ يقول بتعطيل الله عن عرشه وأن العرش منه خال. قلت: سلم بن أحوز الذي قتل الجهم قتله أبو مسلم صاحب الدعوة في حدود الثلاثين ومائة أيضا. وقال أبو داود السجستاني: حدثنا أحمد بن هاشم الرملي قال: حدثنا ضمرة بن ربيعة، عن ابن شوذب قال: ترك جهم الصلاة أربعين يوما، وكان فيمن خرج مع الحارث بن سريج. وروى يحيى بن شبيل أنه كان جالسا مع مقاتل بن سليمان، وعباد بن كثير إذ جاء شاب فقال: ما تقول في قوله تعالى {كل شيء هالك إلا وجهه} قال مقاتل: هذا جهمي ويحك إن جهما والله ما حج البيت ولا جالس العلماء إنما كان رجلا قد أعطي لسانا. قال أبو محمد بن حزم: ومن فضائح الجهمية قولهم بأن علم الله محدث مخلوق وأن الله لم يكن يعلم شيئا حتى أحدث لنفسه علما وكذا قولهم في القدرة. وروى إبراهيم بن عمر الكوفي، عن أبي يحيى الحماني قال: جهم كافر بالله، وقيل: إن الجهم تاب عن مقالته ورجع. قال أبو داود السجستاني: حدثنا أحمد بن حفص بن عبد الله قال: حدثني أبي قال: قال إبراهيم بن طهمان: حدثني من لا أتهم غير واحد أن جهما رجع عن قوله، ونزع عنه، وتاب إلى الله منه. وقال البخاري في أفعال العباد: قال ضمرة، عن ابن شوذب قال: ترك جهم الصلاة أربعين يوما على وجه الشك فخاصمه بعض السمنية فشك وأقام أربعين يوما لا يصلي. قال ضمرة: قد رأى ابن شوذب جهما. وقال عبد العزيز بن الماجشون: كلام جهم صفة بلا معنى وبناء بلا أساس. قلت: فكان الناس في عافية وسلامة فطرة حتى نبغ جهم فتكلم في الباري تعالى وفي صفاته بخلاف ما أتت به الرسل وأنزلت به الكتب، نسأل الله السلامة في الدين.

قلت: وقول الذهبي عن الجهم بأنه كان  ذا أدب ونظر وذكاء وفكر، فيه نظر، فلم يسبق أحد الذهبي في نعت الجهم بهذه الأوصاف، ولا يوجد للجهم كتاب يعرف من خلاله أدبه أو نظره أو ذكاءه وفكره، بل ما روي عنه من روايات تدل على خلاف ذلك تماماً، تدل على سوء أدبه وقصر نظره وقلة عقله وفقهه، ولكن لا أستغرب أن يكيل له الذهبي مثل هذه المدائح، فهو دائماً ما يبالغ في الثناء على كل مشهور ومذكور، وإن كان على خلاف ما أثنى عليه به، حتى يخيّل إليك، أن الذهبي لو أثنى على إبليس لأثنى عليه!

ومن العجائب أيضاً، هو وقيعة ابن حزم في الجهم بن صفوان، مع أن ابن حزم على مذهبه، إلا أنه يخالفه في مسائل يسيرة، ولذلك استحلّ الوقيعة فيه!

وقال علي بن عساكر فبي تاريخ دمشق: محمد بن صالح بن معاوية أبي عبيد الله ابن عبد الله بن يسار الأشعري أخو معاوية بن صالح حكى عنه علي بن مبشر بن خالد الهمداني أخبرنا أبو القاسم علي بن إبراهيم حدثنا أبو بكر الخطيب أخبرني علي بن أبي علي البصري أنبأنا عبد الرحمن بن محمد السمرقندي الحافظ في كتابه إلينا حدثني عبد الله ابن محمد بن إبراهيم أبو محمد الدامغاني الاسفندياري بدامغان حدثنا محمد بن إبراهيم بن أحمد بن نومرد الدامغاني حدثنا أبو زرعة يعني عبيد الله بن عبد الكريم الرازي حدثنا علي بن مبشر بن خالد الهمداني حدثني محمد بن صالح يعني ابن معاوية بن عبيد الله الأشعري عن أبيه قال قرأت في دواوين هشام بن عبد الملك إلى عامله بخراسان نصر بن سيار أما بعد فقد نجم قبلك رجل من الدهرية من الزنادقة يقال له الجهم بن صفوان فإن ظفرت به فاقتله وإلا فادسس إليه الرجال غيلة ليقتلوه. اهـ

قلت: وكما قدّمت، فإن علي بن عساكر على مذهب الجهم بن صفوان وشيخه الجعد بن درهم، وإنما استحل الوقوع فيهما، لأنه يخالفهم في بعض المسائل.