لماذا كان أئمة أهل السنة يصفون الأشاعرة بإناث الجهمية ومخانيث المعتزلة؟

لما كان كلام السلف في الجهمية وضلال منهجهم وفساد عقائدهم لا يحتمل التأويل عمد الأشاعرة والماتريدية إلى التمويه والتدليس والتحايل لنشر عقيدة الجهمية بطريقة باطنية خبيثة ففي البدء تبرأوا ظاهرا من الجهمية وأدعوا نصرتهم للسنة وأنهم من أهلها ثم عملوا على نشر مذهب الجهمية بطريقة ملتوية فمن المسائل التي تحايلوا في نشرها بين المسلمين.

مسألة القول بخلق القرآن وما يتعلق بذلك من صفات كصفة العلم وصفة الكلام بحرف وصوت، فإن الجهمية صرحوا بأن جميع صفات الله مخلوقة ومنها الكلام والعلم وقالوا بأن الله لا يتكلم بحرف وصوت وأن كلامه مخلوق وأنه إذا شاء خلق كلامه تحدث في نفسه بما يشاء فيتخلّق الكلام وينطق بما حدث الله نفسه به وعلى هذا فالقرآن عندهم مخلوق فكل ما فعله الأشعرية أنهم أظهروا البراءة من هذا القول ثم قالوا القرآن كلام الله غير مخلوق فوافقوا أهل السنة في الظاهر ثم رجعوا وقالوا أن كلام الله ليس بصوت ولكن حديث نفس وأنه معنى قائم في النفس لا يتجزء ولا يتبعض ولا يتعاقب لأن هذا حدث والحدث مخلوق ولا يصدر إلا عن مخلوق، ثم زعموا كذباً أن حديث النفس يطلق عليه كلام! وعلى هذا فالقرآن الذي بين أيدينا ليس كلام الله بل هو عبارة عنه فقط وأن كلام الله مجرد حديث نفس حدّث به نفسه فتخلّق الصوت ونطق بالقرآن فرجعوا إلى قول الجهمية سواء بسواء.

وهم إنما يريدون بذلك التحايل على المسلمين فإذا قيل أن أئمة أهل السنة كفروا من قال بخلق القرآن قالوا نحن لا نقول بخلق القرآن بل نقول القرآن كلام الله غير مخلوق فإذا قيل لهم كلام الله بصوت قالوا لا بل هو كلام نفسي فإذا قيل لهم إن العرب لا تسمي حديث النفس كلام قالوا بل هو كلام ثم أشاعوا أن حديث النفس يوصف بأنه كلام وزادوا على ذلك إمعاناً في الغي إلى وضع أبيات نسبوها إلى بعض العرب لتحقيق هذه المقولة ولولى أن الله حفظ لغة العرب ومعانيها لالتبس على الناس حقيقة هذا القول ولظنوه حقاً لما زوروه من الأدلة ويمكرون ويمكر الله والله خير الماكرين.

ومن مسائل الجهمية التي تحايل الأشعرية على نشرها بين المسلمين مسألة علو الله تعالى على عرشه وبينونة من خلقه فإن الجهمية لما أظهروا إنكار علو الله على عرشه وفوقيته على خلقه وبينونة منهم وفسروا قوله تعالى (استوى على العرش) باستولى على العرش صرّح أئمة أهل السنة والجماعة بكفرهم لتكذيبهم للقرآن العظيم وسنة النبي صلى الله عليه وسلم فتظاهر الأشعرية بالبراءة من قول الجهمية ظاهرا وقالوا: نحن نثبت العلو، ولكنهم تأولوا علو الله بعلو القهر والغلبة وتحاشوا تفسير الجهمية باستولى حتى لا يتطابق مع تفسير الجهمية وإن كان تأويلهم استوى بالقهر والغلبة والسلطان يفضي إلى نفس معنى استولى ثم أشاعوا أن مراد أئمة أهل السنة هو إثبات علو الله بقهره وغلبته فقيل لهم قولكم هذا هو عين قول الجهمية فإن الجهمية لم ينكروا أن الله عالي علو قهر وغلبة وسلطان وإنما نفوا علو الذات ولهذا كفرهم أئمة أهل السنة تنكروا لهذا القول وزعموا أن أئمة أهل السنة موافقون لهم فيما ذهبوا إليه، مع أن جميع نصوص السلف تقطع ببطلان قولهم وكذبهم على السلف، كما سوف نبين إن شاء الله تعالى.

ولما قال الجهمية أن الله في كل مكان بذاته المقدسة تعالى الله عن قولهم وقال لهم أئمة أهل السنة إن قولكم هذا يفضي إلى أن الله حالّ في كل شيء في أطهر الأماكن وأنجسها والله يتعالى عن ذلك والقول بهذا كفر وإلحاد تعلم الأشاعرة من خطأ الجهمية لذلك احتالوا في إيجاد عقيدة تفكهم من هذا الإلزام ويوجدون بها فرقا بينهم وبين الجهمية حتى لا يقال عنهم بأنهم جهمية فخرجوا بعقيدة جديدة وهي أن الله بلى مكان وأنه لا داخل العالم ولا خارجه ولا متصل به ولا منفصل عنه ولا فوقه ولا تحته ولا يمينه ولا شماله فوصفوا الله تعالى بصفات العدم تعالى الله عن قولهم علوا كبيرا.

وأما السمع والبصر، فبعضهم يصرح بأن السمع والبصر هو العلم، وبعضهم يتظاهر بإثبات السمع والبصر، وأنهما صفتان زائدتان على كونه عالما، إلا أنه عندما يفصل في معنى هاتين الصفتين يصف السمع والبصر بخصائص العلم!

قال الشيخ صالح سندي في كتابه إثبات الأشاعرة صفتي السمع والبصر لله تعالى: "والواقع أن من فصل في هذه القضية وصف السمع والبصر بخصائص العلم، فهذه الصفات الثلاث صفات ذاتية أزلية يحصل بها انكشاف الأشياء، وغاية ما هنالك أنه يحصل بالسمع والبصر انكشاف ؟أقوى من العلم إذن لا يعدو الأمر أن يكون إلا انكشافا أقوى من انكشاف وإدراكا أقوى من إدراك فأين الفرق الجوهري لو كانت صفات مختلفة في الحقيقة فما ذكروه قد يرد في الصفة الواحدة لاختلاف المتعلق أو نحو ذلك فيكون جانب منها أقوى من جانب كالعلم مثلا فالعلم الضروري أقوى من العلم المستفاد بعد استدلال وهكذا، فال الأمر عند التحقيق الى القول السابق بإرجاع السمع والبصر إلى معنى العلم لكن بمؤاربة وعلى استحياء" اهـ

وفي مسألة رؤية الله تبارك وتعالى يوم القيامة، نفاها الجهمية نفياً صريحاً، وحرفوا معنى الآية التي جاءت في إثبات رؤية الله تعالى يوم القيامة، وما ورد في ذلك من أحاديث، فتظاهر الأشعرية بإثبات رؤية الله يوم القيامة، ولكنهم زعموا أن الله يرى بلا جهة ولا صورة، وقد علم أولي الألباب أن ما لا صورة له ولا جهة لا يمكن أن يرى، في الظاهر وافقوا السنة، وفي الباطن وافقوا الجهمية!

لذلك فهذا المذهب ما أسس إلا للتحايل على العلماء وطلبة العلم، لتمرير مذهب الجهمية المعتزلة، لذلك أطلق عليهم علماء المسلمين، إناث الجهمية، لأن من شأن الإناث الاستتار.

وأما سبب وصفهم للمعتزلة بمخانيث الجهمية، فهو لكونهم يريدون الجمع بين مذهب الجهمية الذين هم المعتزلة وبين مذهب أهل السنة، فجاءوا بمذهب هجين ليس بالمعتزلي وليس بالسني، ولذلك وصفهم أئمة أهل السنة بمخانيث المعتزلة، والمخنث في اللغة، هو ما جمع بين الضدين.

فأما في أول أمرهم، فلم تخفى على علماء السنة حيلة الأشعرية، لذلك حاربوهم كما حاربوا إخوانهم الجهمية، ولكن مع تعاقب الأزمان وابتعاد الناس عن عصر النبوة، وتفشي الجهل وظهور الرؤوس الجهال، جاءت طائفة غرهم الأشعرية بما يتظاهرون به من أتباع السنة ونصرتها، وظنوا فيهم خيرا، فقربوهم بعد إبعاد، وتودد لهم بعد التنافر، وتولوهم بعد البراءة، فنسأل الله أن يعصمنا من الزلل والخطل، فكم والله كانوا سببا في هلاك هالك، ولا يهلك إلا من علم الله أنه لا يفلح.