يقول فخر دين الجهمية وغلاة المرجئة، قبحهم الله، في كتابه المطالب العالية، ما نصه:
"إن الأخبار المذكورة في باب التشبيه، بلغت مبلغاً كثيراً في العدد، وبلغت مبلغا عظيما في تقوية التشبيه، وإثبات أن إله العالم، يجري مجرى إنسان كبير الجثة، عظيم الأعضاء، وخرجت عن أن تكون قابلة للتأويل، ولما كان القائل بالتشبيه جاهلاً بربه، والجاهل بربه يمتنع أن يكون رسولاً حقاً من عند الله، علمنا أن أكثر هذه الروايات أباطيل وأضاليل، وأن منصب الرسالة منزّه عنه!" اهـ
وحاصل القول عند الرازي الضال، أن الأحاديث الواردة في باب الصفات تواترت تواتراً لا يمكنه معه تأويلها على غير ظاهرها، وأنه تدل حقيقة على إثبات الصفات الواردة فيها.
وبدل أن يؤمن بها ويصدّق بها، زعم، أن القائل بالتشبيه جاهلٌ بربّه!
والسؤال هنا: ما الدليل الشرعي على أن القائل بالنشبيه جاهل بربه؟ هل هناك آية أو حديث؟ بالطبع لا. وكيف وهو وأهل ملّته يشهدون أن ظواهر القرآن والسنة تدل على التشبيه المحض، أي: أن القرآن أيضاً يصدّق الأحاديث في مسألة التشابه بين صفات الله تعالى وصفات البشر. ولكن الرازي مع ذلك، زعم أن القائل بالتشبيه جاهل بربه! لماذا؟ لأنه لم يخالف الكتب ولم يخالف السنة، بل خالف قول أئمتهم فلاسفة ملاحدة الإغريق، الذين يرضخون الأقاويل من رؤوسهم!
وبناء على أن أئمته الفلاسفة يزعمون - بغير دليل من الله أو أحدٍ من رُسُلِه - أن الله بلا صفات، وأنه لا يوصف إلا بصفات السلوب، وقولهم هذا عند هذا الجاهل، هو القول المحكم، الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، فبالتالي خرج باستنتاج سخيف، وهو أن القائل بالتشبيه جاهل بربه، وإن كان يعتمد في معرفة صفات ربه على كلام ربه وكلام رُسُل ربه، لأنه يخالف ظنون وأوهام أئمتهم ملاحدة الإغريق، وأنه لا يكون عالماً بربه، حتى يكفر بما ورد في القرآن والسنة عن صفات الله تعالى، ويؤمن بظنون وأوهام فلاسفة ملاحدة الإغريق!!
ثم استنتج أنه لا يمكن أن يكون من يخالف ملاحدة الإغريق رسول، لأنه بالنسبة له جاهل بربه، وبالتالي استنتج أن جميع هذه الأحاديث كذب وغير صحيحة ومدسوسة في كتب الحديث! ومن دسّها، لقد دسّها أئمة الحديث، الذين هم من نقل إليه جميع شرائع الإسلام!!
وقال الجويني الأشعري، ملحد الحرمين، في كتابه الإرشاد: "وأما الأحاديث التي يتمسكون بها، فآحاد لا تفضي إلى العلم، ولو أضربنا عن جميعها كان سائغا" اه
وقال الآمدي الأشعري في غاية المرام في علم الكلام: "ربما تمسك بعض الأصحاب ههنا بظواهر الكتاب والسنة، وأقوال بعض الأئمة، ولا مطمع لها في القطعيات ولا معول عليها في اليقينيات، فلذلك آثرنا الإعراض عنها، ولم نشغل الزمان بإيرادها" اه
وقال الدسوقي في حاشيته على أم البراهين للسنوسي: "أصولُ الكفرِ ستةٌ .. وعدَّ خمسةً منها ثمَّ قال: سادسًا: التمسكُ في أصولِ العقائدِ بمجرَّدِ ظواهِرِ الكتابِ والسنَّةِ من غير عَرْضِها على البراهينِ العقليَّةِ والقواطعِ الشرعيةِ" اه
نعوذ بالله من هذه الوقاحة والكفر.
وقال الصاوي في حاشيته على تفسير الجلالين: "الأخذ بظواهر الكتاب والسنة من أصول الكفر" اه
فانظروا كيف أنهم يردون الأحاديث الصحاح بحجة أنها أحاديث آحاد، وأحاديق الآحاد عندهم لا تفيد إلا الظن بزعمهم، ويقبلون هذيان أئمتهم ملاحدة الإغريق، ويسمون هذيانهم: حجج عقلية. ويحكمون لها بأنها قواطع، لا مطعن فيها ولا شك ولا ريب.
فسبحان من أعمى بصائرهم وأضلهم!
هذا هو موقف هؤلاء الزنادقة من سنة النبي صلى الله عليه وسلم، فهي عندهم أكاذيب وأباطيل.
ولكن لما كان قولهم هذا قولاً ممجوجاً لا يقبله صاحب عقل صحيح وفطرة سليمة، عمدوا إلى التحايل في إسقاطها.
قال أبو بكر الخلال رحمه الله في كتابه السنة: "أخبرنا محمد بن علي الوراق، قال: ثنا محمد بن إسماعيل الترمذي، قال: سمعت الحسن بن البزار، يقول: جاء رجل إلى المريسي، فقال: يا أبا عبد الرحمن، أذاكر أصحاب الحديث، فكلما ذكروا الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم رددته. قال: يقولون: أنت كافر. قال: صدقوا. إذا ذكروا الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم، فرددته، يقولون: أنت كافر. قال: فكيف أصنع. قال: إذا ذكروا حديث النبي صلى الله عليه وسلم قل: صدقت، ثم اضربه بعلة، فقل: له علة" اهـ
وهذا دأب الجهمية المعطلة من المعتزلة والأشاعرة والماتريدية، منذ زمن المريسي وإلى يومنا هذا، إذا اعترضهم حديث ضربوه بعلة، حتى إذا لم يجدوا له علة، قالوا: حديث آحاد، ثم وضعوا قاعدة من تلقاء أنفسهم، يحتكمون إليها، ويحاكمون غيرهم إليها، وهي قولهم: بأن حديث الآحاد لا يفيد العلم، وليس قطعي الثبوت، مخالفين بذلك ما دل عليه القرآن والسنة، من ثبوت خبر الواحد العدل، وأن قوله يفيد العلم والعمل معاً.